الرأسماليون
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : اليوم
الجبلُ السامقُ ينتصب تغرق قمته في كثيفِ السحابِ بأعالي الأجواء..
ومتسلقُ الجبالِ المحترفُ يتطلع إلى ممرٍ صخري مُغـْرٍ يصل لقمةِ الجبل.. فيشدّ حبلـَهُ على وسطِهِ، ثم يبدأ رحلةَ التسلق للأعلى مغموراً بأشعة الشمس الحانية.
يضعُ يديه وقدمَيْه في النتوءاتِ والمحافر ليرتقي بها وعليها إلى الأعلى. والصعودُ هانيءٌ رائعٌ في البداية، ثم يبدأ الممرُ يضيقُ وينحشر، وتتلاشى نتوءات التشبُثِ، وتنمحي أغوارُ التمسكِ، وتزدادُ حِدّة الانحدارِ والزلـَق. وفجأة .. تتجمع السحبُ الرعدية وتتكثف، فتبدأ بإرسال الصواعق والبروق، والمطرَ كالسيول..
يرفع المتسلقُ قدمه لغورٍ يظنه آمناً ليسند عليها قدمه، فينزلقُ هابطاً بفـَزَع إلى جُرفٍ ضيق وليس تحته إلا فراغ على قاع سحيق .. ثم يبدأ الشعورُ بالخوف يقتحم القلبَ، وتفكيره منحصرٌ بشيءٍ واحد .. أن يعود من حيث أتى قطعة واحدة.
مشهدٌ قد تريد تخيله كوصفٍ للأزمةِ العالميةِ المالية التي تهز أركانَ الأرض حاليا.. وهذا المثالُ ترجمته لك من مجلة «التايم» الأمريكية من فاتحةِ مقالٍ عنوانه : «السقوط العظيم».
كان انهيارُ السوق الدولي سقوطا عظيما آذى وتأذى منه العباد، بصورة أو بأخرى .. ولي أن أمثل الأزمة كسائق سيارةٍ سريعةٍ في طريق ضيق متعرج بين التلال، ثم يفقد التحكم في مكابح السيارة، فتنطلق كرصاصةٍ لا تتحكم فيها إلا الجاذبية وقوة الدفع الذاتي .. وعينا السائق تتسعُ فزعا: متى سأقع في تلك الهوة السحيقة؟
لقد لعب بنا الرأسماليون ردحا من الزمان، ونحن نؤمن بالنظام الرأسمالي أكثر من النظام الاشتراكي والاقتصاد المخطط عندما تكون اللعبة عادلة، والحياة رخية، والأشياء مزدهرة.. والدنيا حلوة. لكن بالاقتضاءِ الصعبِ نحتاج إلى حل صعب. والأطباءُ يعرفون أنه في حالات الغرغرينا السارية لابد من حلٍّ سيءٍ للتخلص من وضعٍ أكثر سوءاً ببتر العضو الذي عاثتْ به الغرغرينا .. وهنا يكون الحل: إنقاذُ حياة.
نرى أن تتدخل الدولة أكثر في مناشط التمويل المصارفي، ولا نطلب – لاقدر الله - تأميماً كاملاً، لكن نطلب تملكاً جزئياً، فما قاد للهاوية إلا الطمعُ، وما جاء الطمعُ إلا من إغراء الزبائن بالقروض، وطمَع البنوك بحصد عوائد القروض، فسمعنا عشرات الموضات والمنتجات الإقراضية.. إنه تفنـّنٌ في صناعة الطمع العصري.
فالدولة عوضا عن إقراض البنوك أو مدها بأمصالٍ وريديةٍ، لها أن تتملك حصة من البنوك بقدر ما تساويه التغذية الوريدية تلك.. كي تتغير المبادئُ البنكية من جانب المصلحة الخاصة، إلى جانب الصالح العام، فتـُشغـّل قاطرةُ البنوك لجر كافة عربات الصناعةِ والتجارةِ والخدمات، لا أن تكون قاطرة تنطلق وحيدة على سكة طويلة صنعت من أجلها ومن أجل القاطرات.
ولم أطالب بشيءٍ من رأسي، فماذا في هذا الرأس أصلا؟! لكني بما قرأته من كتب المنظرين الغربيين ( غالبا من الأمريكيين والبريطانيين وهم من قلعتي أكبر نظام رأسمالي)، وكذلك بمُجـَلـَتـَي التايم والإيكونومست، وجرائد متخصصة كالوول سترريت جورنال، والاندبندنت البريطاية دعوات إلى كلمة ترتعد لها فرائص الأسماليين وهي Nationalization أي التأميم.. ولا نعني تأميماً بمعناه السياسي الاقتصادي. إنه مجرد تساؤل عن جدوى تملك الدولة جزءا من البنوك، بعنوان خطة إنقاذية، بمعنى أن تُسيَّر البنوك لأهدافِ الخدمة العامة، وتدار بعقلية الخدمة الخاصة.
أمرٌ دقيقٌ وحذرٌ، ربما رأت مؤسسة النقد أن تستعرض إمكاناته، قبل أن تستفحلَ قلـّةُ إمكاناتِه!