القلب والضمير

سنة النشر : 09/01/2009 الصحيفة : اليوم


وردني كميات عظيمة من أسئلة عن وضع غزة، وهي أسئلة لا تحمل طبيعة الأسئلة التي تستفرد بها المباشر من الأجوبة، وإنما هي نوع من أسئلة الذهول، والحيرة، والحزن، والغضب، والتخبط وكثير من الضياع والقلق..

ولقد احزنني فوق حزني الكظيم على أهلنا هناك، أن معظم السائلين من الصغيرات والصغار.. ولكن من ناحية أخرى بثوا بي أملا بأن الله قد يقيد لأولئك الصغار أن يقودوا تاريخا جديدا ضد صراعنا مع الصهاينة.. تاريخ تضيئهُ شمسُ الإيمان والنصر والوحدة بعد ظلامٍ طال.

واختار سائلة صغيرة هي، «مزنة»، من «أم الساهك»، قالت فيها: «والدي نجيب: أنا بنت صغيرة في الأول متوسط ، لا أملك إلا فسحتي، وتبرعتُ بها، فكافأني أبي بإعطائي مصروف فسحتي لشهر كامل دفعة واحدة.. ثم تبرعتُ به كله مرة أخرى.»، وترون كيف أن هذه الصغيرة سجلتْ موقفاً أكبر من أكبر الأكابر.

وإكراما لها أختار اسئلتها معتذراً عن بقية ما وردني لكونه في ذات الموضوع: لماذا يقولُ بعضهم «قتلى»، وبعضهم يقول «شهداء» لمن قتلتهم اسرائيل، وبما تصفهم أنت به؟

- بيقيني يا بُنيتي مزنة، وبروحي، وبضميرى، أؤمن أنهم شهداء.

وهو ما يخفف من لسعات النار التي تشوي قلوبنا، نارُ العجز والألم، حين نؤمن أن لهم الجنة نعيما أبديا، بأمنٍ وسعادةٍ وسلام وحبٍّ أبدي.ومن يسميهم قتلى، فقد يكون له عقلٌ يا مزنة، ولكنه محروم من شيئين مهمين: القلب والضمير!

متى ننتصر يا والدي، قل لي؟

- يا ماما، سننتصر بحول الله عندما ننتصر على أنفسنا، عندما نمسي جدارا واحدا لا تمر منه ذرة غبار، لا شبكة مهترئة تمر منها شياطينُ الانس، وآلاتُ النار..

متى تتغير الأشياءُ لصالحنا ضدّ اليهود؟

- يا مزنة.. يا مزنة، يا صغيرتي، لن تتغير الأشياءُ، نحن من يجب أن يتغير!

.. ومن مكة المكرمة يتحفنا السيد محمد هوسة بهذه الأسئلة حول التصوف:

هل هناك متصوفون اسلاميون من الأجانب؟

- أظنك تقصد من العالم الغربي، أليس كذلك يا محمد؟ نعم وكثير، ولهم باعُ طويل في تحيق وترجمة كثير من الارث الصوفي، وأشهرهم الفرنسي «دي ناسي»، الفرنسي الذي تولع بالصوفيةِ والمتصوفين، وعشقها وترجم رباعيات الخيام، وحقق الكثير من الكتب الصوفية، وكذلك الإيطالي العظيم «دي ماتيو»، الذي ترجم «تائية» ابن الفارض الشاعر المصري الصوفي الشهير..

هل الصوفية يتزوجون؟

- سؤالٌ عظيم ، وسبق أن كتبت عنه في مجلةٍ انجليزيةٍ في مصر .. وكانت فكرتي تدور على أن الصوفية من المسلمين جرى بينهم الزواج، إلا الزهاد المغالين منهم، وهم كثروا في شمال أفريقية في التكايا والزوايا، متأثرين- برأيي- التعفف النصراني والرهبنة.

.. ومن «شريفة هوسة» من مكة، ويبدو أنها شقيقة أو قريبة أخينا محمد السائل السابق، وتحمل ذات النكهة التساؤلية:  سمعتُ من بعض مثقفينا أن الخيام كان متدينا مع أني أعرف أنه ملحد ؟

- لا، صعبة، يا شريفة. فلو قرأتِ بتمهلٍ ستجدين أن الخيـّامَ يسمى أيضا ( حجة الحق)، فهو عالمٌ صوفيٌ فيلسوفٌ وزاهد.. ومن اعتقاداته أن «الاجتماع الانساني يحتاج الوجودَ الإلهي، وأن الشرائعَ الأرضية يجب أن تكون هي الشرائعُ الإلهية. ويكفي أن تخرجي من دائرة الرباعيات الشهيرة لتسمعيه يناجي ربه قائلاً: آه ربي، رحماك ربي بين ميلٍ ووازع حار لـُبي اي راعٍ أعصي وأياً ألبـّي

برأيك ما هي أجمل ترجمة لرباعيات الخيام؟

- برأيي، أن أروع ترجمة كانت لابراهيم العريض البحريني العميق المعرفة بالفارسية، وأجمل ترجمة كانت لأحمد رامي

كيف تصنف الفكرَ الخيـّامي؟

- نعرف طبعا أن الخيام كان حاذقاً في علم الرياضيات ومتجلياً في التحليل الرياضي الفيزيائي، ومن ناحية فكرهِ الديني ( إن شئتِ يا شريفة) فهو يميل للتصوف الفلسفي، وأنا ممن يظنون أنه تأثـّر بفكر المعرّي الذي سبقه، من حيث اجتهاداتهما الإشراقية، ومواضيع التناول الفلسفي، وما وراء المادة ( الميتافزيقا).

ما هو أشد بيتٍ هجائي قرأته؟

- احتدم الخلافُ بين «ابن دُرَيْد» ( محمد بن حسن اللغوي المعروف) وبين «نفطويه» (ابراهيم بن محمد العالم، النحوي الشهير) فقال نفطويه: بن دُرَيـْد بقرَة وفيهِ لؤم وشَرَه فردّ عليه «ابن دريد»: وشاعرٌ يدعى بنصفٍ اسمهِ مستأهلٌ للصفعِ على خدَّيْـهِ أحرقـَهُ اللهُ بنصفِ اسمــــهِ وصيَّر الباقي صراخاً عليهِ

أتذَكرُ أنك قلت أو كتبت أن ميخائيل نعيمة أعمق فكراً من جبران، مع أن جبران متعدد المواهب فهو شاعر ورسام وألف بالإنجليزية؟

- وما زلتُ أقول. ميخائيل نعيمة كان متعدد المواهب باقتدار، فإلى جانب تنسكه الفلسفي، كان أيضا شاعرا جميلاً وعميقاً، وشبهته بطاغور الهندي. ثم أنه قال شعرا ونثرا بالروسية وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقد أتقن الروسية مثل أدبائها الكبار ( التي طبعا لا يعرفها جبران) ، ثم أنه ألف أيضا بالانجليزية وأبدع، وانجليزيته أرقى من جبران ( الذي تساعده في قراءة وتصحيح ما يكتب الأمريكية ماري هسكل.) إلا أن حبران أكثر شاعرية. وكتابه «مرداد» صدر بالانجليزية ثم ترجمه هو إلى العربية .. وفي ديوانه الجميل ( همس الجفون) ضمنه رسوماتِه، فهو رسامٌ ايضا.. فمن أكثر موهبة؟

إجابات أسئلة الأسبوع الماضي:

- فاز في المناظرة اللغوية «سيبويه» إمام مذهب البصره على «الكسائي» إمام مدرسة الكوفة. وأول ثلاثة أجابوا إجابة صحيحة هم: عبدالرحمن آل حسان من الطائف، وبهجة المصرية من الحفر، وإيمان البصيري من مدينة عيسى البحرين.. وزاد كل منهم بمعلومات ثرية.

- أول امرأة أسستْ مذهبا دينيا هي ماري بيكر ( 1879م) وهو مذهب العلم المسيحي. ولم يجب على السؤال أحد.

تعقيب: () من اشهرهم ابن الدباغ الذي فرض على نفسه التعفف بلا زواج طيلة حياته، ومنهم ابن دينار المشهور، وحياته رد على الردود التي جاءتني من مفكري مصر المسيحيين والمسلمين على المقالة الانجليزية، فابن دينار قرأ كثيرا في الزبور والتوراة ومجـّد تعاليم المسيح كما وردت بالأقانيم، وكان يتردد على الأديرة، ويفعل ما يفعله الرهبان.)

() الخيام كان يكتب بالفارسية، ولكنه من أصول عربية.

() اختار الشاعر المصري «أحمد رامي» حين شرع بترجمة الرباعيات، من ترجمة انجليزية مشهورة، البحرَ السريع، وسكب بها روحاً صوفية خالصة، وهذا يدعم إحساسنا بأن «رامي» أما أنه كان صوفيا، أو مولعاً بالصوفية.

() أختار لقارئ الزاوية عبدالكريم، وأنتم بعض من جميل وعميق شعر ميخائيل نعيمة الذي وصف الحرية بأنها انعدام التمني، فيقول: كلنا نزرع الأماني ولا نحصدُ بعد العشـــاءِ غير الأمــــانــــــي والأماني يقرضنَ حبلَ الأماني، كالثواني يقرضن حبل الثوانـي وأصلـّي في داخلي للأماني، والأماني في الجهرِ يضحكنَ منـِّي

في أمان الله..