المستمعين

سنة النشر : 06/01/2009 الصحيفة : اليوم

 
.. عبد الرزاق التركي، يُلِحُّ علي بأن أحضر «عندهم» في «السرداب».. ضحكتُ لأول مرةٍ، «السردابُ» يا عبد الرزاق؟ وماذا تريدني أن أفعل هناك؟!
 
«السردابُ»، يا للاسم!
 
لكنه اسمٌ لا يمكنك نسيانـَهُ..
 
اتضح فيما بعدُ أن السردابَ هو مقرّ ببيتِ عبد الرزاق، عبارة عن بهوٍ أرضيٍّ واسعٍ.. وأنيق الترتيب، وفيه تجتمعُ ثلـّةٌ من النابهين كل أسبوع ليتناولوا قضيةً من قضايا الفكر، أو قضايا الساعةِ .. وعزِموا أن يدعوني لأكون ضيفاً في .. السرداب.
 
ويقول التركي، وهو يدعوني : «عادة ما نعطي المتحدِّثَ ربع ساعةٍ، ثم يبدأ النقاشُ، ولكن الجميع رأى أن تتحدثَ لمدةِ ساعةٍ .. وشعرتُ بالزهو، مثل أي شخصٍ لديه هذا الضعفُ الانساني.
 
حضرت للسرداب، ورأيت أنه ضاقَ، وكان الحضورُ يتقاطرون أثناء الحديث
 
وكان الموضوعُ الذي اتفقنا حوله هو الحديث عن غزة، والوضعُ الشائكُ اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً بها، ولمّا كان الحديثُ عن غزة فإني تحدثتُ بحماسةٍ، وصارحتهم بأنه لا وقتَ للعقل والتحليل، وإنما هو وقتٌ للعاطفة والتعاطفِ والمساندة بلا شرط، وبلا تحليل، وبلا لوم.
 
دخلتُ في الموضوع إسقاطاً، مستوقفاً بفواصل قصة الطفلة سناء، وربطها بالوضع في غزة كمشهدٍ من واقع الحياة بها. وسناءُ هي الطفلة الرضيعة التي ماتت على مراحل أمام نظر أمها وأبيها بسبب الجفاف ثم الفشل الكلوي، حتى انتفخ رأسُها وتسمم جسدُها بالكامل، بموت أليم فظيع بطيءٍ تحت مراقبة أمٍّ تموت معها، وأب اختنق بالداخل قبل أن تغيب ابنتـُهُ الغيبة الأبدية.. والذي قتلها ليس المرضُ، بل قتلها مجرمان لا يرحمان : اسرائيلُ والحصار.. ولك أن تقول : اسرائيل، وكفى.
 
استغرقتُ حتى غرِقتُ، ورأيت أن الدمعَ يغالبني، وأني شططتُ بالعاطفةِ، وأن المستمعين ـ وهم نخبةٌ من المفكرين، ومؤسسي نوادي الخطابة، والموظفين المرموقين ـ قد لا تعجبهم العاطفةُ المرسلة، ولكني رأيتهم وجموا، وحامتْ على رؤوسِهم أطيارُ الحزن. ولما أعلنتُ أني انتهيتُ، بدأت المداخلاتُ بذات الألم والعاطفةِ المشبوبةِ، والعزم على العمل على الأرض .. حتى أن صديقـَنا المثقف صالح بن حنيتم الغامدي، لم يتوانَ من إطلاق صوتِهِ العذبِ في موّالٍ حزين، دمَج به آلامَ غزة مع حديثي ارتجالاً.. وحلّ على السردابِ، سردابٌ آخرٌ من الوجوم.
 
وفجأة، كنا هناك.. في غزة.
 
سمعتُ أن التركي سيغير اسمَ المكان بنادي التركي الثقافي، وهاتفته راجياً أن يبقي الاسمَ الغريبَ اللافت.
 
قلتُ في صدر المقال :إنهم سمحوا لي بالحديثِ ساعة، فشعرتُ بالزهو، كنت أعتقد أنه من أجلي .. ثم عرفتُ أنه لم يكن من أجلي .. بل من أجل غزة!