قيصرة الروايات

سنة النشر : 19/11/2008 الصحيفة : اليوم

 
اخترعَ «آنا»، وكاد ينتحرَ من أجلِها! .. بمكتبتي كتابٌ ضخمٌ بعنوان: «الحرب والسلام»( نسخة الترجمة الإنجليزية من الروسية مباشرة) والكتابُ ضخمٌ وفخمٌ وأنيقٌ، ومستندٌ بوجاهةِ العظماء على صفٍّ من الكتب.. لأني أعتقد أنه لو كان للرواياتِ قيصرة، لكانت قيصرة الرواياتِ «الحرب والسلام».. لواحدٍ من أقوى مخيلات كُتـّابِ الروايات في تاريخنا الحديث؛ الروسيُ المجيدُ ( ليو تولستوي).
 
وسأحاول هنا أن أسلـِّط الضوءَ على الزاويةِ الشخصيةِ لتولستوي، فرغم قامتِهِ الفكرية السامقة، إلا أنه من لكتاب النادرين الذين ذهبوا في تطبيق ما يدعون له في إنتاجهم الأدبي في الواقع الشخصي فوق ما كتبوه.
 
« كيف لمن كان مثلي، يحملُ هذا الأنفَ العريضَ، وهاتين الشفتين الغليظتين، والعينين الصغيرتين بلون الرماد المنطفئ، أن يجد السعادةَ على الأرض؟» قرر ذاك الرجل الدميمُ أن يصنع شيئا لوجههِ، بأن يواريه عن الأنظار.. فأطلـَق لحيتـَه. ولحيةُ «ليو تولستوي» صارت أشهر لحيةٍ في تاريخ الأدبِ العالمي.
 
على أن «ليو» عرف، فيما بعد، أن للسعادةِ معاني أخرى، أبعد ما تكون من مجرد مظهرٍ وسيم. ليو تولستوي، ليس فردا عادياً من دهماءِ الرّوس، إنه الكونت ليو تولستوي، وريثُ العزِّ والجاهِ والثروة والمجد.. ألا يكفي أن جدَّهُ لأمِّهِ ( نيكولاي تولكونسكي) كان القائدَ العام لجيوش الإمبراطورة «كاترين العظمى» الجرّارة؟.
 
وأسرتـُهُ ملكتْ الضياعَ الشاسعة في ريف ولاية «تولا»، وتحتها مئات من الفلاحين الذين يتفصّد عرق ُجباهِهم من أجل رخاءِ هذه الأسرة، الأسرةُ التي لا تسمح أبداً أن يحتك أولادُها مع الفلاحين وأولادهم، بأي صورةٍ، وأي شكل. إلى أن جاء يومٌ.. «ليو الصغير» يقولُ لعمّتهِ المتعجرفة: «قررتُ أن أخرج لألعب مع أبناء الفلاّحين، فما أنا إلا فلاحٌ عادي..» غضـَبُ العمّةِ كان كافياً أن يعود الصغيرُ إلى حياتِه المُترفة مرة أخرى.. ولكن الروح المشتعلة إنسانية كانت في الكمون.
 
ثم عاش الكونتُ «ليو» فترة الضياع والتأرجح في شبابه، التيْهُ بين رغباتِ أسرتِهِ وتقاليدِها العجفاءِ المترفـِّعة، وما يعتلجُ بصدرِهِ من حبٍّ جارفٍ للإنسانية.. فقرّر أن يلتحق بالجيش.. ولكنه أيضا تسرّح من الجيش، بعد أن خاض حرباً ضروسا أبلى بها بلاء الشجعان ضد التتار، ولكنه وجد أن أعظم مخاوف الإنسان وهو يمارس شجاعتـَه الزائفة في الحروب.. الخوفُ لمّا يكون نزعُ روح إنسان مجرد عمل يوم اعتيادي، بل يعتبر عملاً شجاعا.. لم يطق عقلـُهُ هذا الوضعَ.. فهل يعودُ لأسرتِه؟ لا.
 
كتب لأسرتهِ رسالة كانت الحدّ الفاصل التاريخي في حياتِه، ذكر فيها الجملة التي طارت مضربا للأمثال:» إن مملكة اللهِ داخلنا.. وما الله؟ اللهُ محبة.» وشهدَتْ العقودُ التي تلت من حياتهِ حمل تولستوي مشعلَ حياتِهِ بنفسِه، كمبشرٍ ومطبِّقٍ لأروع مشاهد هذه المحبة.. وصار أهمّ مصلح إجتماعي، وألمعُ أديبٍ روائي، ولم يقف عن محبّةِ الناس، وبالذات المستضعفين الصغار ووهب لهم أراضيه وثروته.. وسخّر قلبَه لحبِّ الناس.. حتى وقف قلبُه.
 
المرحلة التي سطعت بها شمسُ تولستوي الإنسانية والعقلية هي لما ذهب بعيدا عن أسرتهِ إلى مدينة «سانت بيترسبرج»، وارتفع نجمُه الفكري، مما دعى كبارَ أدباءِ روسيا للاعتراف بقدراته الفذّةِ، حتى أن سيّدَ كُتـّابِ ذاك العصر( أواسط القرن 19) «بيرجنيف» علـّق على ظاهرة الشابِّ الصاعد:» أكثر ما أتخوّفهُ أن يبقينا هذا الشابُ في الظلِّ.
 
لذا، فالأفضل لنا جميعاً أن نتوقف عن الكتابة!».. وأنا لم أطلـِّع على شهادةٍ بهذا الحجم، في كلِّ قراءتي، عن أي كاتبٍ من كاتبٍ آخر.. أبداً! بعد أن أنهى روايتـَه (آنا كارنينا) ذرفَ الدموعَ تأثرا ببطلته لدرجة أنه من تعاطفه معها حاول الانتحار ( تصوّر!) .. إلا أنّ الكتابةَ استلحقتـْهُ فأنقذته، وظل يكتب،ويكتب.. حتى مات.
 
وموتـُهُ أروع فصلٍ في روايةٍ إنسانيةٍ حقيقية.. ربما رويناها بوقتٍ آخر.