سعي نحو السعادة 2
سنة النشر : 16/09/2008
الصحيفة : اليوم
الأستاذ نجيب الزامل: ترددت أن أكتب إليك، أقدم مرة وأحجم مرة أخرى، لولا أني قرأت مقالاتك الرمضانية التي كنت تتوجها بعنوان (سعي نحو السعادة) ولقد سألنا أنفسنا كثيرا، أنا وزوجتي ووالدتي وابنتـَي، هل نحن من السعداء؟ وكيف يمكن أن نفسر السعادة؟ فقد فقدنا لتونا ولدنا الوحيد الصغير، وأصرّتْ والدتي ألا أذكر المرضَ إلا كما تسميه والدتك (مرض الرحمة)، فوالدتي أيضا من قرائِك.. ونحن متأكدون أن صغيرنا مات سعيدا، فهو الذي قال لنا ذلك.
هل عرفتني يا أخي نجيب؟ أنا والد «الدمامي الصغير» الذي أصر أن يرسل لك وهو تحت المغذيات والأدوية والعلاج الكيميائي عبر الإيميل مرحِّباً وسعيدا بما سميته «بزوغ أولاد الدمام»، وطلبنا منك حفظ الاسم واعتذرنا عن عدم رغبتنا آنذاك في استقبال المكالمات والرسائل.
ولكني أخبرك الآن أن ولدي الوحيد احتفل بالرسالة التي أرسلتها لنا من الشاب «سيف الجريان» من أولاد الدمام، وكان دوما يقول إن سيف صديقه وسيراه.. بل إنه لما بدأ يهذي وتختلط عليه الحقيقة والخيال طالما ردد أنه التقاك والتقى سيف، وأنه حضر اجتماعا وقدم الأفكار والمشاريع، وقال لأمه إن أولاد الدمام صفقوا له وأعجبوا بأفكاره، يبدو أنه في أيامِهِ الأخيرة لم يكن في الخارج، بل كان معكم في الدمام.
مضى وقتٌ قصيرٌ على وفاة ابني، ونحن راضون بما قدّر اللهُ لنا، لذا بودّي أن أضيف أن من السعادة يا أخي الرضا، وأن من السعادة أن ترى أبناءك سعداء حتى وهم مرضى، ولو كان مرضهم مميتا، فما الفائدة أن يعيش الإنسان وهو شقي وكئيب؟ ونحمد الله كما تقول والدتي وزوجتي أن موتَ ولدي لم يأتِ مفاجئا بحادث سيارة، أو أن الموت خطفه خطفا.. لقد مات ومعه هذا الرضا وعزز بنا الإيمان، وقد كان عذاب بقائه تخفيفا لنا من عذاب غيابه.
لا أدري ما أقول لك، فلست كاتبا ماهرا ولكن أؤكد لك أننا سعداء لأننا راضون، ونحن اليوم في مكة في أطهر أرض، وندعو لكل من أسعدوا ولدي وهو على فراش المرض. وتقبل تحيات العائلة، ولا أراكم اللهَ مكروها».
ماذا أقول لكم يا قرائي الأعزاء.. هل أحزن وتحزنون؟ هل أبكي وتبكون؟ الأب والأم والجدة والأختان يقولون إنهم سعداء لأنهم راضون، أيصح إذن أن نقول إننا سعداء لأنهم هم من السعداء؟ هل نفكر في لحظات الفقدان التي لن تعود، ولا يد لنا فيها، أو نـُسعَد لأنه كان سعيدا لما كان بأيدينا أن نسعده؟ علـّمني ذاك الصغيرُ أن من أبسط الأمور وأسهلها أن تـُسعِد الناس، عجيبٌ أليس كذلك؟ عجيب أن السعادة التي هي أثمن شعور في الدنيا، يمكن تحقيقها بأبسط وأسهل الأعمال بشرط أن نريد فعلا تحقيق السعادة لغيرنا، وفي النهاية سنجد أننا أسعدنا أنفسنا، وأيما سعادة. أسأل نفسي ماذا عملتُ لإسعادِ الصغير؟ لا شيء يذكر على الإطلاق، ولكنه كان مستعدا أن يكون سعيدا، اللهُ خلق في قلبـِهِ الصغير منبعاً للسعادةِ يسعى بطبعه وتلقائيته ليصب في عروق جسده مع دمه الدائر السعادةَ والحبورَ، فهي سعادة من داخله في البدء وفي الختام.
الشاب «سيف الجريان» تعاطف بقلبه مع الدمامي الصغير وأصرّ أن يتصل به بأي طريقة، ولو صحَّ له لسافر على الفور وبأي وسيلة مهما صعبت للقاء الدمامي الصغير، ولكن لم يعلم سيف، ولا علمت أنا، أن السعادة هي من أمر الله حين تصل الناس بمحبةٍ صادقة فتصل الرسالةُ وتفيض. لم أخبر «سيف» بالرسالة ولكنه سيقرؤها هنا إن شاء الله، وسيعلم أن إسعاد الناس من أسهل الأمور عندما تكون صافي القلبِ والروح، وصادقا بأن تراهم سعداء، وأن تساهم في تحقيق أمانيهم الجميلة مهما صغرت فشأنها كبير، والا ما أكبر من شعور طفلٍ يتألم، ويكرر أنه سعيد لتواصله مع محبين له..
مات «الدمامي الصغير» سعيدا بإذن الله، ولعله سعيدا الآن في الملكوت، والأكيد أنه أسعدَ ويسعد الآن أحياءً يسيرون على الأرض.. بينما أحياءٌ آخرون يجلبون الأحزانَ ويوقدون مجامرها لأحياءٍ آخرين.
فمن الحي ومن الميت؟! السعادة تـُبقي صاحبها، حين يرحل، حيـّا في قلوبِ الأحياء.