الخير والمحبة
سنة النشر : 19/08/2008
الصحيفة : اليوم
عمالقةُ الإنسانيةِ لم يكونوا يرسلون الكلامَ والحِكمَ والأمثالَ عبثا، إنهم يحملون قبساتٍ كونيةٍ في ضمائرهم، فأضاءوا لنا إرثَ المشاعرِ الإنسانيةِ عبر الأزمان .. هذه ما تعلمته واقعاً من صديقي الصغير هاني، من هيوستن تكساس .
طالعتُ لطاغور الهندي المعاصر، وكونفوشيوس الصينيِّ القديم، وهما من أكبر من أرسل الشعرَ والشعورَ الإنسانيـَيْن .. فطاغور هو الذي يقول لطفلٍ أخذ ما في فمه ليلقمه طفلاً يتضورُ جوعا : «تعال يا شمسي واصنع الأضواءَ في قلبي المظلم .. كي أرى الخيرَ من جديد». وكونفوشيوس هو الذي قال: »القسوة ظلامُ ليلٍ بلا نجوم ولا قمر، والرحمة بدرٌ ينبع أنواراً ليشع ظلامُ الليل» .
قبل هاني كانت تلك مجرد كلماتٍ محلقةٍ وعبقريةِ الجمال تـُغرِّد في قلبي، وبعده صارت أجنحة تخفق لأتجاوز الآفاقَ، وأجاورُ تخومِ أعرَض سعادةٍ يتطعمها بشريٌ .. رغم قصصهِ المحزنة .
من هاني ؟ ما حكايته ؟ هاني يكاد يخطو ملاكاً في مدينةِ هيوستن، قادته قاطرةُ الرحمة في طبيعتهِ ليقوم بعملٍ يكاد يكون نوعاً من التبـَتـُلِ، والانقطاع من أجل الخيرِ والمحبة .. فهو كلف نفسَه بمهمة متابعة وزيارة وتفقد المرضى السعوديين في مستشفيات هيوستن ، كل يوم ، كل ليلةٍ .. لطالما خرج من محاضرتِه ليقرأ كتبَه أمام مريض ، يحادثه ، ويترجم له ، ويتفقد حاجاتـَه ويخدمه، ويطالب له .. ويحرص على الصلاةِ في غرفهم ويدعو لهم من كل جانحةٍ بوجودِه .
وأظنه أهم عاملٍ نفسي بين المرضى السعوديين في مستشفيات هيوستن .. هاني لم يتجاوز العشرين عاماً إلا قبل أشهر، هذا الصغيرُ الذي يُمضي الآن سنته الثانية في الولايات المتحدة ، لم تبهره أضواءُ المدينة الكبرى ، ولم تجذبه نهاراتـُها الصاخبة ولا لياليها المبهرجة .. هذا الفتى بطلٌ من أبطال الإنسانيةِ الذين طالما قرأناهم كالأساطير يخرجون كل يوم في مهمةٍ واحدة : «إنقاذ الإنسانية « .
هاني لم أعرفه من قبل ولم أره لليوم .. ولكنه يخطو في وعيي ملائكياً متسامياً نورانيا ، وصار يحرص على مكالمتي ، وكل مرةٍ يشحنُ قلبي بطاقات الضياء .. قلبي الذي كاد يتفطـّر من ضغوط ما رأى وما جرّبَ من قسوةِ بعض بني البشر، فيأتي هذا النورانيُّ الصغيرُ ليمسح ما علـِقَ بقلبي من سُخامٍ وأكدار، ويعيد صبغـَهُ بالأبيض ، لونُ الأنوار .
بدأت معرفتي بهاني بعد أن كتبتُ بالاقتصاديةِ عن «أبو عبدالعزيز» الذي أُقفِلَ ملفُ علاج زوجتِه وابنتِهِ من قِبـَل المكتب الصحي السعودي في واشنطن العاصمة - أفادني الملحق الصحي هناك لاحقا بأن فترة علاج زوجته وابنته انتهت رسميا - فتسلمتهما الكنيسة .. وبما أن مريضتـَيْ «أبو عبدالعزيز» في هيوستن فلا بد أن ملاك هيوستن قد عرفهم جميعا .. فهاتفني بعد قراءة المقال ، وأكـّدَ لي كل ما كتبتُ نقلا من فم أبي عبدالعزيز، ومن صديقِ لي رجل أعمالٍ بالخبر يعرف الرجلَ حقّ المعرفة .. ثم صار هاني يحرص على زيارة كل مريض ويخبرني عنه ، وأنا أرأفُ على ميزانية الطالبِ الصغير ، وأُصِرّ أن يُقفل لأعيد مهاتفته ، ولكنه يمانع ويقول: «لا تأبه، المكالمةُ لا تكلفني الكثير، فأمريكا بلادُ التقنية « .
قبل البارحةِ هاتفني هاني حوالي منتصف الليل متأسفا على إزعاجي متعذراً أنه لا يستطيعُ صبرا ، لأنه وجد مريضا سعوديا عبقريا ومثقفا من القصيم متروكاً لأكثر من عشرين عاما بمصحة نفسية .. وأخبرني أن لا علاقة لجهاتنا الرسمية بالموضوع ، فقد تركه أخوه ، وأخذ جوازَ سفره، وتركه ، مع حرصه على إرسال المال للمؤسسة النفسانية .
والمريضُ يحنّ للعودة، وتعلق بملاك هيوستن وكأنه ريح الجنة .. ريحٌ عبـِقة هبّت عليه ، بعد انقطاع ، من وطنِهِ ، من أهلِهِ ، من حنينِه ، من ملاعبِ طفولتِه .. وطلب مني هاني أن نعمل معا لمساعدته ، فوعدته .. قال لي هاني : «تابعتُ ما كـتبتَ عن «رابطةِ العودةِ للجذور» للسعوديين في الشرق ، فما رأيك أن تعلمني كيف أجهِّز رابطةً إنسانية كتلك؟ « أجبته قبل ان يُكمل : «أنت يا هاني رابطة، ولن تفعل أيُّ رابطةٍ كما تفعل .. ومع الوقت سيُعجَبُ بك كثيرون وينضمون معك ..» قال : «ماذا أسميها؟ « قلتُ : «سمّها : ملاك هيوستن» .
ضحك الشابُ البديع ضحكة تأخذ القلبَ ، ولأول مرةٍ أسمع ضحكته .. طالعتُ الأفقَ المفتوحَ وراء النافذة ، بعد أن أقفل هاني السماعة ، ورأيت البدرَ منيرا يلوِّح للطيبين من قلبِ السماء .