الدين والديموقراطية

سنة النشر : 18/10/2005 الصحيفة : اليوم

 
في هذا المستشفى الذي أعرفه جيدا، أقيمت مناسبة وأعطوني درعا تذكارية بمناسبة، كما كـُتـِب: "لمساهماته في برنامج زرع الكلى، ولإضاءاته الفكرية.."
 
وهذا مستشفى في دولة كاثوليكية، والمستشفى من المستشفيات المرموقة عالميا ويدار عن طريق كنيسة كاثوليكية في الولايات المتحدة، وهم يقدمون أحدث الخدمات والعلاجات الطبية، ولكن تبقى الروح الكاثوليكية صارمة الحضور. ولقد أخبرتكم في مقالة سابقة كيف أن به أطباء مفكرين فكروا جديا في التحول للإسلام بعد نقاشات داخل المستشفى وخارجه.. وكتبوا هم عن حواراتنا، وهذا ما سموه " الإضاءات الفكرية".
 
وكنت قد دخلت لفحوصات تتطلب بعض العمليات الصغيرة الاستكشافية وهي إجراءات روتينية يومية، ومن طقوس المستشفى أن تمر راهبات على المرضى قبل العمليات أو كل صباح لأصحاب الأمراض المزمنة، ليشرحوا لهم عن مملكة السماء ورحمة الرب. ودخلت في صباح أحد الأيام امرأة شابة متدثرة بلباس الرهبنة وغطاء الرأس الأبيض، وتحمل صليبا يلمع فوق دثارها الأسود يكاد يفوق حجمها.. وقالت لي مرتبكة، فقد عرفت من الوهلة الأولى أني لست مسيحيا: "أنت الذي أحتفي به، هل تحتاج مني أي خدمة".. أشرت لها بالكتاب العظيم الذي معي، فقالت: "أنت تقرأ القرآن، كتابكم المقدس.." قلت لها نعم: "كتابنا المقدس.. ولكن من نحن؟" قالت لي: أنتم العرب والمورو(مسلمو جنوب آسيا)" ، وأجبتها: "الذي نؤمن به جدا، ونملك أسبابنا العقلية والإيمانية أنه لنا كلنا.. كل من على الأرض.." وأجابت : "ونحن نؤمن بذلك أيضا.. أنه لكل العالم.."
 
وسألتني فجأة:" ولكن قل لي: كيف تقرأ القرآن هنا بدون قسيس يشرح لك معانيه، وبالذات الخاصة بالشفاء ومساعدة الرب" أجبت: " في قراءة القرآن نفسه اطمئنان وراحة كبيران، وكلماته تنير القلب وتزودنا بقوة، وتؤكد لنا أن الله معنا دائما"
 
• ولكن .. هي كلمات، والكلمات لا تملك منح السكينة بذاتها فأنت تحتاج لرجل دين معتمد ليشرح لك المعاني"
 
• نحن لا نحتاج لذلك، فالكلمات بذاتها منيرة من تلقائها، وتصب بقلب المؤمن، ولها رتم إعجازي يستجلب الطمأنينة من أقاصي مظانها.. ولكن أريد منك شيئا قبل أن نكمل النقاش غدا، بأن تفتحي صباحا على محطة الجنوب وستخبرينني بما لاحظتِ على المستمعين، والمرتل يتلو عليهم القرآن"
 
• لم، لا نكمل النقاش الآن، وقل لي أنت؟
 
قلت لها لك عمل آخر.. ولننتظر الغد.
 
في الغد أقبلت فاتيما وكنت قد صحوت لتوي من آثار المخدر، وتردَّدَتء على أني شجعتها، وقالت:
 
• لقد رأيت البرنامج، ولاحظت أن القارئ يتلو بصوت مؤثر، ويبكي، ومن حوله منصتون وبعضهم يبكي أيضا..
 
• أرأيت يا فاتيما؟ هذا ما قصدته "بالرتم الإعجازي". في القرآن عذوبة سماوية إعجازية، فمن رأيتهم يبكون، كلهم، أو معظمهم، لا يفهم العربية لغة القرآن، ولكن هذا الرتم السماوي يحرك أقصى مشاعرهم السامية فيبكون تأثرا من قوة السكينة، وفرط الطمأنينة، والانعتاق اللذيذ من معاناتهم"
 
• سأتأكد من ذلك، وإن كان صحيحا فلا بد أن الموضوع يحتاج مزيدا من التفكير، وماذا عنك أنت؟ فأنت عربي..
 
• نحن نفهم القرآن ونتلمس روعته الإعجازية، لأنه مكتوب بلغة من المحال أن تقلد ولكنها مفهومة المعاني، لذا فمن يعرف العربية لا يحتاج أحدا ليقوده، وهناك تفاسير ولكن لأصحاب العلم المتعمق.
 
• هل يعني إذن أنكم لا تحتاجون رجال دين ولا كهنة؟
 
• تماما! وتقاطعني فاتيما: ولكن الأسقف ريك يقول إن لكم رجال دين وألقابا مثل الإمام والشيخ والحاج..
 
• هي ألقاب عامة، خذي الإمام فهذا يعني من يتفوق في علمه على الآخرين ولا يطوبه مسجد أو هيئة لاهوتية، يثق به الناس فيسمونه إماما أو شيخا أو عالما ببساطة مثل التقدم بأي علم، أما الإمام حرفيا فهو من يقود الصلاة في المسجد، وهو متاح لأي مسلم تتوافر به شروط التدين.
 
• هذه ديموقراطية إذن، والديموقراطية ضد الدين، فهي موجة معروفة أنها ضد الكنيسة..
 
ألقاكم غدا..