الإجتهاد في الإسلام
سنة النشر : 23/08/2005
الصحيفة : اليوم
جاءتني رسالة وأنا في الخارج، تقول إن الأستاذ مات.. وتذكرت لما جاء إلى مكتبي متكئا على واحد من محبيه، وكأن الشمس قد دخلت بجواره، واستوى على الكرسي، وصار يناقشني في مقال فكري عن التأصيل الاجتهادي في الإسلام، ثم عن تنمية العمل في الروح الإسلامية، وإذكاء الاجتهاد مع العمل المتصل بواقع المسلمين ضمن الظروف الكونية، وكانت عيناه تلمعان بعمق رغم أنه بالكاد يرى بهما الضباب، ولكن قلبه وعقله انفتحا على دنيا من المعارف ومن الجهد لا يمكن تخيلهما.
لم أعرف في حياتي رجلا في مثل انكبابه على أعماله.. ولو كان موجودا لرفع رأسه الجليل ورمش بعينيه سريعا كما يفعل عندما يضطرب سمعه بكلمة نشاز، وكان سيقول معترضا بأدبه الجم:"ليست أعمالي يا بني، هي أعمال للناس نقدمها لرب الناس".. وقد قال لي هذا.
وأنا أعرف الشيخَ من طفولتي الأولى، وكنا منذ ذلك الحين إلى هذا الحين نرمقه وكأنه عالم بذاته، لقد كان الرجل بالفعل أكبر من واقعه، رجل عاش من أجل الناس من أجل رب الناس، قال، وصدق. وهو دائما من الصادقين.
عندما يغادر معانقا الأبدية رجلٌ مثل الشيخ محمد السليمان الشيحة، فإن شيئا في السماء ينطفيء، وإن حلكة تسود في العتمة، لأن نجما مشرقا بتلألؤ أنواره انطفأ أبديا.. كل منا يذهب من الدنيا ويترك فراغا بحجم جسده ومساحة وجوده، إلا من مثل الشيخ محمد الشيحة، فقد قلع من قلوبنا مكانا سنيا كان محفوظا له، وكأن الهواء نقص فجأة في الجو فانتفض القلب ومار العقل.
وهذه المرة لم يكن الشيخ مغادرا في زيارة من زياراته المنيرة، ولكنه راح مشمولا بإذن الحق تعالى لمن عمل من أجله.. رحل لرب الناس. وهي رحلة منقطعة في الزمان، وستكون ألما غائرا في الوجدان. لا أظن أني عرفت عن قرب رجلا يمكن أن يملأ الحياة مثله، وكان يسمى بين أهالينا في الجيل الذي قبلنا "الأستاذ" ولا يشار إليه إلا بتلك الصفة.. وكان أستاذا بحق، وكان طلبته ومحبوه ومريدوه يرونه يملأ الدنيا، ويتملون به تملي المريد بالعارف.
كان مثلا صافيا للعامل المسلم الكبير في الزمان المكتنف بالضلالات والظلمات، كان الشهاب الذي يلمع في السواد، فلا يأخذ من السواد إحلاكا، وينشر نور المعرفة، والتواضع، والجهد العارم.. فتضطرم الظلمة بالضياء.
هذا الرجل لم يكن يعرف الوقوف أبدا، كان في نضال مستمر، نضال لإحقاق المبادئ في كل العالم الإسلامي من الجزائر إلى فلسطين إلى الشيشان.. لذا كان حزمة من الطاقة، وكان حزمة من الطبقات الحزينة التي لم يفصح عنها أبدا، ولكن ينضو عنها الزمان، فيما يرفع أمام الناس من دواعي الكفاح.. هذا الرجل لم يوقفه إلا الموت، لم يوقفه إلا الحق الإلهي.
رجل عرف معنى الحق الإلهي أكثر مما نعرف كثيرا، لذا كان جهاده تحدوه طاقات من السماء. وبما أن المؤمن يبقى بأعماله، وعلمه، وتابعيه، فالرجل محمد الشيحة قد مات..ولكن، لم يمت الأستاذ!