المدينة .. مثقفة

سنة النشر : 30/01/2000 الصحيفة : عكاظ

 
الثقافة كانت دوما ومهما اختلفت التفاسير وزوايا الرؤية في الوعي العام.. وهذا الوعي ليس مجرد الإلمام بالمعارف الإنسانية ولكنه شيء مثل الضمير العقلي الذكي ، الذي يحدد الأمور. ويقيسها ويحددها.. ويحكم لها ، وعليها.. وتتوج الثقافة الفعالة بالمواقف التي ينافح عنها.. ويكافح من أجلها.. وعندما زرت الرياض صغيرا ، وطالبا جامعيا ومرتبطا باشياء عدة فيما بعد كنت المس هذه الروح العامة بجلاء.. وكنت أعزو ثقافة العديدين من الناس في هذه المدينة إلى الطبيعة الاسترخائية السائدة حيث كانت مدن المنطقة الشرقية تموج بالأعمال التي تقودها أرامكو فتغطي الجوانب العملية ، والانضباط الوقتي ، والالتزام المهني على مظاهر وتواتر التفرغ الوقتي لبناء الروح الثقافية ، وتجد مدن الساحل الغربي عامرة بهذه المواسم والأعمال الدينية والتجمع التجاري منذ أزمان سابقة. وبحكم هذا الميناء القديم والذي جعل من جدة تغمر بالروح التجارية التقليدية. وتأكيدا للرتم الاسترخائي ( ونعني فيه بدقة سير الحياة الهادئ ذا الايقاع المنتظم) فإن في كل من المنطقتين الشرقية والغربية كانت هناك ضفاف استرخائية كانت منابع ثقافية کالاحساء والقطيف ، وفي الغربية مكة المكرمة والمدينة المنورة.
 
وأعرف أن مدينة جازان في الركن الجنوبي الغربي للبلاد كانت مجتمعا متجذر الثقافة.. ولها مفكرون معروفون بطابعهم الكلاسيكي... ولا يكفي أن نقول أن المدينة مثقفة لأن بها كثرة من المثقفين الذي يعطي الثقافة نورها ووهجها.. والأهم نفعها ، هو الاحترام الجاد السائد الثقافة.. وهذه ترجمتها الاحتفاء الحقيقي بالأعمال الثقافية ونتاج الفكر.. وبالمثقفين والمفكرين انفسهم. ولقد كانت باريس منذ بدء التنوير الثقافي مرتبطة بفونتين و لامارتين و موباسان و موجو وبتيارات الثقافة من الرومانسية إلى العبثية والوجودية والسوريالية ، والتكعيبية في الفن ارتباطا جاذا حميما وصار يحلو للفرنسيين بوصفها بمدينة النور.. بل العالم وكانت صوالين الثقافة فوق ذلك من مظاهر الرقي والتميز في المجتمع الباريسي وكان شرقا لأي من وجهاء باريس ان يستضيف رمزا فكريا.. هذا قاد حركة الثقافة الفرنسية التي أثرت وأثرت العالم... في اسبانيا خرج موهوبون كبار مثل لوركا، وغيره، غير أن طبيعة المجتمع الأسباني العنفواني، وهزله العابث ضعف من جدية البعد الثقافي.. ولم يكتب للتيار الثقافي الأسباني هذا الإشعاع الذي يخرج من الفكر الفرنسي.. والمفارقة.. إلا إذا خرج الأسبان الموهوبون إلى فرنسا.. وكنت المس نقلة ثقافية جدا في مجتمع الرياض في كثير من المنتديات ولم تكن هذه المنتديات إلا مجالس عادية لناس عاديين.. وكنت أعجب لمجرى النقاش الجاد وطرح مواضيع قرئت في مجلات وصحف المدينة.. ولا يصعب العثور على عقول واضحة الرؤية في كل هذه المجالس... جدية أعجبت بها.. واحتفاء أهل الرياض بمفكريهم لا يمكن الإشارة إليه بالتقصير.. وعلى العكس تماماً قد يخطر لك أن شوفينية تلوح من خلال إطرائهم لمثقفي مدينتهم الكبار. ووسيلة الثقافة هي القراءة والإطلاع، وأعرف عن خبرة تسابق ناشري الكتب في العالم العربي لإقامة المعارض والاشتراك بها في الرياض وفي المملكة عموما قياسا يـوجد لدينا يوجد أكبر عدد من قراء الكتب من المجتمعات العربية الأخرى.. وأسأل الناشرين اللبنانيين مثلاً.... ويضيق المانام عن مظاهر أخرى مثل المكتبات.. ولكن الإشارة لابد أن تكون ساطعة في أن وجود دعم رسمي للحركة الثقافية هو من بواعث النماء الرئيسة....
 
لذا كان لابد من أن تكون الرياض مناسبة لتكون عاصمة ثقافية.. وهذا ما كان!