تفكّه من فضلك!

سنة النشر : 10/09/1999 الصحيفة : عكاظ

 
.. شيء جميل لا نتحدث عنه بإسهاب إلا من ناحية علمية أو من نواح تبريرية.. إنني أقصد هذا ( اللذيذ) الذي اسمه الفكاهة. والفكاهة من اسمها خفيفة على القلب ، طافية على العقل سابغة على الروح. إنها ليست السخرية وليست الكوميديا السوداء ، ولا الضحك المتهتك.. ولا ( التنكيت) الخارج.. إنها فكهة ملونة. مبهجة ، وهي بسيطة غير متفلسفة منافقة و وغير متبرجة ، جميلة بلا غطرسة مطلقة وغير معقدة. والفكانة ذكية تعبر بلمعة بارقة عما لا نستطيع أن تقوله أو تعبر عنه بجدية أو بصراحة. ثم إن السامع للفكاهة يصله المعنى بوضوح ساطع وبموج مداعب ولا يعمد إلى نقاشها أو هتك هذا التعبير اللامع إن أعظم المفاوضين هم أولئك الذين ينقلون بالفكاهة معانيهم الظاهرة.. وغير الظاهرة.. وكان (تشرشل) فكها.. وكان (ترومان) رائق المزاج متقبلاً العبقرية الطرقة.. أما (ستالين) فكان جاداً عابسا ، مغلق الروح ، جامد المزاج. نصار تحالف عظيم بين أمريكا وبريطانيا... وانعزلت روسيا وراء ستار حديدي وعسى ألا أرضى بطفح الخيال ، وتعظيم الصورة التمثيلية عندما أشبه الفكاهة بملحمة العصر.. إن الملاحم في العصور الماضية أيام الأغريق والرومان في قصص وأشعار وأساطير تجمعت وقبلت من شعراء كثيرين ومجهولين تاركة اثري تراث فكري فيه عبق التاريخ وغموض الخرافة والخيال العبقري والفكاهة هي مجموعة من المقاطع البشرية والتعارض في المعاني وصرخة الموقف ، وارتدادات للضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، معزوفات على أوتار التجربة الإنسانية.. لا نعرف بالتحديد منشاها... ولا منشلها. أترى شيء كالملاحم.. وهل تجد سبيا في تسمية دانتي لملحمته ( بالكوميديا) إلا حلقة رابطة وانتقالية بين التناول الملحمي القديم والانطلاقة التي نعرفها فيما أطلقناه تعبيراً... ملحمة الفكاهة.
 
وإنك لو تصفحت سير العظام العظام فعلاً.. لوجدت أن الفكاهة في وجدانهم.. أو أنهم يستطعمونها بذائقتهم الراقية وسليقتهم المهذبة. انظر الى نثر الجاحظ وكيف رش الفكاهة على نشره العظيم.. وحتى الحجاج أعتى الحكام في تاريخنا العربي إنما كان يعفو إن عفا- فلاجل طرفة تنطلق الى داخل نفسه المحصنة حديد وقسوة لتفك قلاعها... ومارك توين فكاهي الفكر الأمريكي الأول. حتى اسمه اخذه من جانب فكاهي.. ثم بنى كامل فكره الجاد والذي رسخ الفكر الأمريكي مستقلاً. و قادماً على حوامل الفكاهة.... إذن تفكه يا أخي و تفهكي.