وللذكاء قصة! (الحلقة الثانية)

سنة النشر : 07/03/1995 الصحيفة : عكاظ

 
كنا في الحلقة السابقة- إن شقيت بمتابعتها- نتحدث عن الذكاء.. وعلى أن الذكاء بحد ذاته يكتنفه الكثير من الغموض كما تكتنف السحب اللجية الكثيفة بعض الكواكب السيارة.... وإن اخترع الانسان مسبارا فضائيا يسبح في أجوائه اللانهائية الا اننا ـ بعدـ لا تعرف مسبارا للذكاء.. ولا معلومات أكيدة ولا مقاييس أكيدة بل حتى ولا تعريفا نهائيا. انه شيء نحسه ولا نعرفه ندركه ولا نصنفه نختلف فيه ولا تختلف عليه تعرف وميضه.. تعرف سريانه تلفنا اشعاعاته وتسيرنا نتائجه ولكن لا نصل الى ماهيته ولا نشرف على بداياته كما لا نقف على نهايات.. هل هو مجري لا ينتهي.. لا ينبع ولا يصب ؟ أم شريان دافق ينبعث من مكان لا نعرفه ساريا الى اي موقع نجهله وتتزاحم علامات الاستفهام. وتتصادم وتقودك الحيرة الى المتاهة وتوصلك المتاهة الى الضياع ثم أن الخطوط معدومة والتخوم مطمورة والمعابر مفتوحة بين اشراقات العبقرية وبين اشارات الخبل والذهول.. لو استرسلت لما وقفت لو استرسلت لربما قادني أحدكم إلى مقر آخر حيث لا سؤال.. ولا من يسألون!!... والمهم هنا انني كنت أروى قصة واقعية- كما أزعم على الاقل تبين الحيرة والتضارب في مسألة الذكاء هذه وان كانت لا تمس الا طرفا صغيرا من عوامل الذكاء الواسعة الا انها تعطى مثالا قريبا لغموض الذكاء وآلية انبعاثاته التي لا نفهمها.. وقفنا في الحلقة السابقة عند تخرج ناصر ومنصور وهما بطلا القصة في الجامعة منصور متفوقا ( بعد طفولة اتصفت بالتاخر العقلي) وناصر رقما متاخرا في كشوف كلية نظرية ( بعد طفولة اتصفت بالبريق والفطنة ثم أنهما ولجا الحياة العملية عبر بواباتها الواسعة.. اما ناصر فقد قاد حياة عملية ناجحة مرموقة اتسمت بالتميز والانجازات ووضع الخطط الناجحة كما ارتقى السلم الاجتماعي قفزا ، أما ما كان من أمر منصور فقد اهلته شهاداته للعمل في شركة كبرى مرموقة في ادارة هندسية.. حيث غاب تماما في لجة العمل.. ونسي المجتمع ، ونسيه المجتمع قبل ذاك ولم تصل إلى مسامعنا انه حقق اي انجاز يذكر على أي من الصعيدين العلمي أو الاجتماعي.. على أن ماحدث. زاد في غرابة الموضوع.. فبعد أن استقر كل منهما في وظيفته واخذ وضعا واضحا للأمور المادية فكر كل منهما- مثل اي شاب بالزواج وبناء اسرة.. والاستقرار!! على أن منصور ذلك الرجل المنطفيء والذي عاد خاملا راضيا بغيابه داخل قوقعته وتوحده كان يخطط بذهنية باردة لمواصفات الزوجة ووضع الأولوية في أن تكون ذات ذكاء متقد.. وضمن الدائرة الاجتماعية التي نعيشها تعرف اسرة بذكاء اعضائها عبر تاريخ مسجل معروف فهم متفوقون منذ زمن بالعلوم الدينية والشرعية ومتفوقون في التجارة ، ورجالها ونساؤها يحملون أعلى الشهادات العلمية والتفوق الكاسح هي الصفة الشائعة بينهم.. فعقد قرانه على إحدى كريماتهم وكانت قد تخرجت ويتفوق في كلية الطب.. وسار بهما مركب الحياة أما ناصر ذلك الرجل الذي وصل مناصب رسمية رفيعة وحضر ندوات خارجية متعددة ومثل مصلحته في مؤتمرات خارجية وبات سيرة على كل لسان بنجاحه والمعيته ، فقد اختارت له والدته شريكة الحياة حيث لم يكن يملك الوقت والتفرغ- لمثل هذا الأمر- ضمن صخب الحياة حوله وللوعود البراقة التي تضيء سماء مستقبله.. ووقع اختيار الوالدة على فتاة صالحة من اسرة كريمة.. الا ان قارب الفتاة لم يبحر بعيدا في مياه الدراسة وتكسرت بها المجاديف قبل ذلك ، وترجلت من القارب والمياه مازالت ضحلة.. شديدة الضحالة وعقد قران ناصر عليها.. وايضا سار بهما ركب الحياة.. والحمد لله ومثل أي زيجة ناجحة مستقرة ومتواصلة فقد رزق كل منهما بالينين. وقد باركت لهما شخصيا بميلاد ( رائد) ابن منصور ومقدام ابن ناصر اللذين ولدا في نفس العام قبل ثماني سنوات.. وحيث انني لا أعرف الطفلين في بداياتهما كما سمعت عن أبويهما الا انني الآن اتابع التقارير التي تصلني من والديهما ناصر ومنصور.. وانظر معي الى الذي حدث.. رائد ابن منصور يحقق اخفاقات كبيرة في دراسته ولم تنجح كل الوسائل في اسعافية وخرج بصعوبة ومشقة لا تنسى من الصف الأول ابتدائي.. الا انه غرق حتى منتصفه في السنة الثانية التي يعيدها الآن للمرة الثانية (وأحيلك الى أن والديه يحطمان اي مقاس للذكاء كما علمت سابقا) كما أنهما لم يتركا وسيلة تربوية علمية دراسية خصوصية لم يلجا اليها ، ولكن حصادهما كان هشيما وغبار... اما مقدام ابن المتعثر في جامعته النظرية ، وابن التي جندلت في أوائل معركتها الدراسية فقد حقق ومازال نجاحات مذهلة وبتفوق لا ينافس الأغرب أن والديه اتفقا على عدم تشجيعه في ذلك الأن الأول يا اخي يكون محط الحسد والعين والغيرة ثم انه يبقى دوما على رؤوس أعصابه خوفا من الانزلاق عن هذا المكان الضيق الزلق ( التفوق) ولكن ارادة الله كانت!!).
 
الله وحده يعلم ما هو مصير مستقبل كل من الطفلين وهل يتعرضان الى منعطف ( ذكائي) كما حدث مع والديهما.. اننا نجهل هذا الآلية. كما أن أبويهما وان مرا ضمن منعطفات الذكاء تلك الا انها ليست بتلك الحدة والفوارق التي بين ابنيهما ، فناصر حين كان يتفوق كان منصور يجتاز زحفا والعكس صحيح.. وعندما تعرفت على الصبيين هالني انني وجدت ( رائدا) متفوقا بل وضليعا باللغة الانجليزية ويجيد قراءتها بإتقان مذهل وهو ما لم يتعلمه في المدرسة بل ـ كما اعتقد ـ من مربيته ووالدته.. بينما يتعثر طويلا في القراءة العربية كما يعبر عن نفسه- بإقتدار – باللغة الانجليزية ويفهم اشياء تبعد عنه أي صفة للغباء والتعثر العقلي.. إلا أن لسانة يضج باللغة العربية ويبكي الحيرته في عدم الاستهداء للاجابة.. غريب اتجده كذلك معي؟ ربما انك مثلي لاتملك تفسيرا الا اننا نقف أمام المعقل الانساني كالذرة الهائمة اما اقيانوس عظيم وقد قرأت لعالم أنه قال: كل ما يزخر به الكون من أسرار يتضاءل امام غموض عقل الإنسان ( أفلا تعقلون!).