وللذكاء قصة! (الحلقة الأولى)

سنة النشر : 28/02/1995 الصحيفة : عكاظ

 
سأروي لك القصة كما حدثت فعلا ومازال مغزاها يحيرني وهذا ما نحتاج الى تفسير شاف له من قبل علماء الهندسة الوراثية.. ودارسي علـى الانسان الأنثربولوجيا والنفسانيين وعلماء الاجتماع.. إن المحير في القصة التي مازالت وقائعها تترى وتنفض سؤال يكاد أن يكون ازليا عن ماهية (الذكاء) ماهو تعريفه؟ ماهي صفات حامله كيفية قياسه انواعه.. بل هل له انواع التضاد والتداخل في اقصى ومضات الحضور الذهني وادنى أغلاقات الغياب الادراكي في شخصية واحدة ، فضلا عن أن نخوض في اخلاقيات الذكاء شرير.. طيب.. عنيف مقدم متهاود وهو؟ وهل هذه الانبعاثات نابعة من كون الذكاء عاملا مديرا.. ام متلقيا انعكاسا لطبع يخلق مع الانسان؟... والاسئلة بلانهاية لان الحيرة بلا نهاية.. وتكاد تكون احداث هذه القصة انموذجا لعينة من انواع شرائح الذكاء تلك التي لا نملك ازاء ما الا الحيرة أو التخبط في التفسيرات التي تعرقل اقدامنا بمزيد من الخيوط والشباك والوحل في متاهة تغرق اتجاهاتها وتنمحي مخارجها. وبطلا القصة ( يحملان بالطبع هذا اسمين مستعارين لها يجب أن نعلم.. هذا إن صدقت- كما أمل- انهما من شخصيات الواقع لم أشهد- للفارق الزمني- طفولة ناصر ومنصور وإن شهدت مجريات الاحداث الاخيرة.. لذا فالقصة بعضها منقول مباشرة ( والناقلون هذا يتمتعون بكامل الأهلية التي تفيض مصداقية صحيحة للقصة) وبعضها أنقلها لكم لمعايشتي لهذا ( البعض) ( وانا اتكى على حسن ظنكم في مسألة اهليتي.. في طفولتهما قبل سنوات المدرسة كان ناصر المعيا شقيا.. حسن الحديث.. صاحب حيلة ونباهة.. تشع عيناه كما يقول عارفوه باشعاعات النباهة والفطنة.. يملك تأثيرا وجاذبية لا يمكن لأترابه مقاومتهما فكان دوما القائد والقدوة في كل شيء هذا فوق خفة روح ظاهرة وقابلية كبيرة لدى الاخرين الكبار والصغار على السواء.. وصاحبنا الاخر منصور كان طفلا منطقة بليد الحركة تعدى عمره الخمس سنوات وهو لا يحسن وضع الجمل ولايتقن مخارج الكلام عزوفا... منفردا.. وبينما كان ناصر يتقن العد الى ارقام (كبيرة) تتعدى العشرة كان صاحبنا منصور لم يكتشف بعد أن على الارض ارقاما ولقد كان منصور متجليا في الحصول على القاب السخرية والاستنقاص ليس من اترابه من الاطفال ، بل حتى من أهل بيته.. كان منصور وناصر ضديين مثاليين... في كل شيء!!
 
بلغ منصور وناصر السن الذي يؤهلهما للدخول الى المرحلة الابتدائية ، وسارت الأمور كما عهد الناس منهما.. ناصر يتفوق ويجتاز المرحلة الدراسية كالمتسابقين الرشيقين في منافسات الحواجز. شعلة من النشاط والمشاركات المختلفة.. محط اعجاب مدرسيه وموضع قدوة زملائه والعلامات تبرق أي شهاداته الدراسية.. وهل تود أن تتطلع على ( حالة) أخينا الآخر منصور.. فهو ايضا كما يؤمل منه ، يزحف زحقا ، ويلهث منقطع الانفاس في كل عام منضويا في اخر صفه.. عيا.. خاملاً لا ينفعل ولا يتفاعل تسقط الحروف في لسانه وتموت على دفاتره. وبكلمة ، تكاد المدرسة بكاملها لاتحس بوجوده إلا في الكشوف عند تلاوة الاسماء.. ولك أن تستنتج أن ليس في شهاداته ما يحث على تعليقها على أي حائط!! وبعد أن أنهيا المرحلة الابتدائية ناصر متفوقا.. ومنصور مترنحا ، كانت المرحلة المتوسطة بانتظارهما.. فما الذي حدث ؟! انقلبت الامور على عقب.. ومن اول يوم بزغ شيء من قاع جمجمة منصور وحمل لواء التفوق المذهل مسجلا امتيازات لم تعهدها حتى الاعوام السابقة في مدرسته وان كسب تقدير جميع المدرسة لانجازاته الهائلة والمفاجئة الا انه لم يمنح الجاذبية والتفاعل مع مجتمعه.. كسب اعجابا ولم يذل حيا. أما ناصر فقد انزلق على سفح شديد الانحدار وصار مستواه الدراسي أثرا بعد عين وتفوقه الدراسي تاريخا يغيبة الحاضر كل اشراقة يوم دراسي وان حافظ على الكثير من الله الاجتماعي ونشاطاته الأخرى وجرى زملاؤه من خلفه فضاعت منه الريادة ، وان حافظ على القيادة واستمر على هذا المنوال حتى نهاية المرحلة الثانوية. وفي المرحلة الجامعية ، كان القرار المصيري امام كل منهما والقرار يعتمد على ما جنت بدا كل منهما فمعدلات منصور ( الصحية) اهلته لافضل الدراسات العلمية وانتسب الى فرع هندسي في جامعة يرن اسمها كصوت الكريستال الاصيل. بينما تمزقت أحذية ناصر وهو يتنقل من مسجل الى اخر الى ان قبل في فرع انساني بجامعة بعيدة.. وتخرج الاثنان في نفس العام منصور على لائحة الشرف في الجامعة الممتازة.. وناصر رقما يحمل سنة اضافية على اكتافه وعلى نفسيته واستقبلهما العالم الرحبا. وانظر ما حدث خلال سنوات.. ناصر صار موظفا مرموقا في مصلحة كبرى ويتحلى بمواصفات الموظف النابه (كما تقول تقارير رؤسائه) ويمتاز بالذكاء والمبادرة والتطوير وابداء الحلول وقيادة الأفراد وتحسين مناخ العمل حتى وصل بهذه السنوات القلية الى اكبر المراكز الوظيفية والى وجاهة متميزة في مجتمعه، اما ماجرى لمنصور فإنه التحق بشركة كبرى تدعمه شهاداته وتفوقه العلمي.. ثم فقد في الزحام.. وكاد العالم ان ينساء.. والشركة لاتكاد تعلم بوجوده. ولم يصلنا أنه اجترح أي تفوق يذكر لافي عمله ولافي مجتمعه. وهذا ان كان باعثا للحيرة كما أسلفنا في البداية.. في مسألة من منهما الذكي وماهية الذكاء.. وهل الذكاء شيء بذاته.. أم سري كالكهرباء ؟ أم هو وميض خفي بازغ لانعلم كنهه وأصل مصادره ؟! على أن القصة لم تنته فصولا بعد فالاتي اشد غرابة.