الكتاب.. ومنافسوه!
سنة النشر : 31/01/1995
الصحيفة : عكاظ
في زيارتي الأخيرة لمعرض الكتاب الدولي في القاهرة بدورته السابعة والعشرين تبين لي حركة واضحة في الاتجاه نحو الكتاب عرضا ونشرا وقراءة مما يزيد قناعتي القديمة بأن للكتاب مكانا قد يكون ازليا قد يتأرجح صعودا وثباتا وهبوطا ولكن لن يكون مصيره الضمـــور والزوال.. وذلك لأن للكتاب خصوصیات تختلف عن غيره من وسائط المعلومات.. فلكل وسيلة مذاقها المختلف وفوائدها المتغيرة ومتعتها المتباينة وطلابها الكثيرون ويبقى للكتاب اثر معنوي وفكري بطابع يلفه سحر وجاذبية لا يمكن مقاومتها لمن وهب منحة حب القراءة والإطلاع ويبقى برأيي القارىء من الكتاب هو المثقف الحقيقي لانه الأعمق إطلاعا. والأوسع مخيلة والأكثر جدية.. وحتى لا تعد ما أقول شططا في الرأي أو انحيازا جائرا لما أحب فقارن. لاعدمتك بين متلق للمعلومات من خلال الأنظمة المرئية والمسموعة وبين القاري المنقب للمعلومات من خلال الكتب وأترك لك تماما الحكم بينهما أو على أي منهما... فالقارى يبقى كما قلت اعمق اطلاعا لأنه يبادر بإرادته في البحث عن المعلومة وتكتمل ملكاته العقلية بجمع المعلومات المتسقة من أكثر من كتاب وأكثر من مرجع لنظم موضوع متصل من مقدماته الى نتائجه. بينما يفرض على متلقي المسموعات والمرئيات المعلومات كيفما أراد لها باعث المعلومة ويدمن المتلقون على حسن الاستماع وينسون أنهم يتعلمون أيضا حسن الانصياع ولان المعلومات تأتي جزافا وتصب في أوعية الذاكرة الواعية صبا فإن قدرات التنقيب وحوافز الذكاء والبحث التي هي رياضة العقل تضمحل وتنأى رويدا رويدا حتى تنتهي أخيرا كالدودة الزائدة لاندري عنها الا حينما تلتهب... أما كون القاري الأوسع خيالا فهذا أكثر وضوحا وأسهل برهانا فإنك في المرئيات بالذات لاتني صورا خيالية لأنها تأتيك بزهوها وصورها وحركاتها وسكناتها وما عليك حفظك الله من النصب والتعب الا الإستبصار وفتح عينيك الى ان تحلق حولهما عصافير اس وتبقى مخيلتك قد غفت قبلك بازمان.. وعندما تستيقظ أنت من سباتك فإنها تبقى في غفرتها ــــ أي المخيلة- كأولئك المرضى النائمين في أحراش افريقيا من مداعبات ذبابات التسي تسي... ربما حتى الموت!!
إنما في القراءة.. ألم تحس منذ نعومة اظفارك بوطاة تلك الصخرة الصماء في هجير مكة اللاسع على صدر بلال رضى الله عنه.. الم تكد تدخل في غار ثور مع أفضل البشر صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضی الله عنه.
ألم نكتشف في شبابنا القارات والمحيطات في قراء اتنا لسير المكتشفين والرحالة ومذكرات مرتادي الصحارى والبحار ألم نطلق في عوالم الخيال مع كتاب الخيال العاطفي والإنساني والعلمي. ألم نتغير وتحارب ونثور ونتحيز ونموت من أجل أفكار ، ونظريات كتبت هنا وهناك.. في هذا الزمان.. أو في ذاك! ألم يسوح عباقرة الفكر في العالم بل وفي أكوان واسعة وهم لا يكادون يطأون خارج عتبة دارهم كالعملاق محمود العقاد الذي فجر السطوح الفكرية والأدبية وغير خارطة الأدب العربي الحديث أو كأنجلز الألماني الذي لم يخرج للعالم الأشتراكية مع زميله الساخط دوما كارل ماركس الانجليزي اليهودي الذي تنصر فيما بعد) وإنما قرأ عنها من الكتاب الاقدمين الباحثين عن العدل الإنساني الأقصى وعن يوطوبيا المساواة حتى بعثا سويا النظرية الزلزال للبروليتاريا الأممية الجانب المتطرف من الفلسفة الاشتراكية الموجودة في الكتب في عهدهما.. بل أن القراءة (بأي أشكالها) هي التي اعطتنا الدليل الأعظم الدليل المعجزة لعظمة الخيال الذي ينشأ من القراءة والتلقي حالة البعيد عن رسم الصور المباشر وذلك في ميلى كيلر العمياء الصماء البكماء.. وكلنا نعلم أن هذه السيدة وقفت على منصة العالم لتحاضر على شعوب العالم..
ويبقى النضوج العقلي والنفسي.. أن مرضى شاشات التلفزيون أو السينما أو المسرح ينقص معظمهم هذا الألق الفكري والمنحى السلوكي التطبيقي فنجد أن كثيراً من هؤلاء النظارة يتعلقون بمظاهر الموضوع ولا يلتصقون ابدا بالموضوع ذاته فتراهم مأسورين بالأبطال والبطلات كمثل أعلى.. وعندما تعلم بأن هؤلاء الابطال لا يعدون نسبة منهم ولا أقول كلهم- عن دمى تتحرك أو أجهزة استقبال وبث بدون فكر أو فلسفة عمليتين.. ندرك بالتبعية مدى سطحية هذا النوع من الناس..أننا لا نرى جموعا تحيي الحفلات والمراسم والطقوس وبروتكولات التأبين من قراء الكتاب العظام وغير العظام كما يفعل المأفونون المعجبون بملك الروك الفيس بريسلي او ذلك الممثل. احب القدرات العقلية المختلفة والذي كان رمز شباب عصره جيمس دين أو المتسكعة مارلين مونرو.. هذا هو الفرق فرق يقبع بين ضفتيه محيط واسع عميق نسميه النضوج الإنساني..
لقد راودتني هذه الخواطر وانا اتجول في المعرض الضخم حيث عرضت ملايين الكتب في ردهات وأروقة أرض المعارض بالقاهرة وقد قابلت معظم المسئولين هناك ابتداء من رئيس مجلس الإدارة والذى لمست منه تحفرا الإنماء المعرض وتشجيع جميع فعالياته المصاحبة ولكنني أحلم أن يوازي هذه الحركة بناء تحتي لتنمية مظهر المعرض وقدرات وأدوات وعرضه وتجميل مظهره العام.. وإضفاء النظام والأنظمة الحديثة في اجراءاته حتى يواكب هذا الشلال الفكري المنسكب في الحركة الفكرية والتأليفية والإبداعية في الوطن العربي. ولي حديث معكم في المرة القادمة عن الإتجاهات والظواهر التي رصدتها في معرض الكتاب إن شاء الله.