مصر التي عرفت
سنة النشر : 24/01/1995
الصحيفة : عكاظ
تداعيات للكاتب اثناء زيارته معرض الكتاب بالقاهرة *
اود مفاتحتكم اولا بساتني لم اور مصر وحتى أكون أكثر دقة فاني عرجت مرة على القاهرة لأيام معدودة ولظروف خاصة لم نتح لي رؤية البلاد كما يجب ان يرى المحب المستطلع ذو الفضول. ولكني عرفت مصر وعايشت مصر منذ ابتدأ ادراكي يتبصر المعرفة ... عرفت مصر ادبا وسياسة ورواية وصحافة وتاريخا.. و عايشت وبهرت وتابعت إعلاما في الفكر والفلسفة وقرات ربما كل ما كتبوه واتطلع دوما الى ما سيكتبون وعنا انبنت في ذهني ونمت في تصوراتي مصر... مصر الادب ، تلك الالهامات التي أدخلتني الى عوالم ودخائل الفكر المصري المنبثق من المجتمع والطبيعة المصرية وما مزجت به تيارات وتأثيرات طبقاً لكل اديب فرأيت الادب المصري- المصري والذي تغلب عليه الاغراقية المحلية فتشم نسائم الريف وتكاد تضع اطراف أصابعك في الترع.. وما تحلى به هذا النوع من الأدب من فكاهة المعاناة.. والأدب المصري العربي حيث تلمس جانب مصر العربي وهو اتجاه فكر بالغ في الحفاظ على أصالة اللغة العربية ممزوجة بالكثير من الاحساس بالدم العربي وحاول احيانا تأصيل هذا الجانب في البيئة المصرية انك حين تقرأ للرافعي تعجب من شدة حرص الرجل على تصفية الاسلوب وانتقاء الكلمة المفعمة.. وعندما تكون مطلعا أيضا على نتاج أدب الشام اصحاب ذات المدرسة تجد منهاجا مختلفا وبصورة واضحة المتابع عن الاسلوب المصري المطعم بالفكر والثقافة الأوروبية وبالذات الانجليزية والفرنسية وتلمسها في كتابات العبقري العقاد الذي وأود الا أكون مبالغا) تعدى بخطوة عقلانية وصرامة الفكر الانجليزي ، وفي كتابات طه حسين الاكثر تأثيرا في ملكاتنا العقلية بالعالم العربي في دراماتيكية النشطة والمتابعة ( معه أو ضده في أن).. ومصير الشعر بتياراته الجارفة الجميلة والتي شكلت اطار العالم الشعري في الثقافة العربية منذ بدء القرن الحاضر.. وصوالين الادب المزدهرة في الثلاثينيات قبيل الحرب الكونية الثانية ولقد حفظات منذ مطلع شغفي بالقراءة أماكنها وشخصياتها وحواراتها وما جرى في كواليسها الى ان بدأت هذه العوالم المتميزة تفقد بعضا من أبهارها في الادب النعطي في أواسط الخمسينيات. السياسة ، منذ طلائع القرن التاسع عشر وزخمها المتلاطم لتثبيت الهوية المصرية والتي كادت أن تنوه في الوسائل والطرق حتى شككت يوما لكثرة تعدد الاتجاهات فيما اذا كان المقصود تثبيت الشخصية المصرية ام تشكيلها.. ام خلقها وتبزغ اسماء سياسية تقاتل من أجل ذلك وهي تقف أما على أرضية تركية ( عثمانية او فرنسية ، أو انجليزية ، وتتشكل تصورات متباينة لمعنى الوطنية المصرية ، ثم تختلط اسماء وشخصيات في الفكر والأدب ، وعلماء ازهريون ، ولا تدري ماذا يريد هؤلاء الطليعيون ايريدونها فرعونية أو اجنبية ؟ ام انتماء في الدين واللغة ؟. وخاضت كل التخصصات في بحر السياسة المتلاطم في العشرينيات حيث بلغت أوجها ، إلى أن نما نضج سياسي واضح في اواسط الثلاثينيات واستمرت الى نهاية الاربعينيات ورغم ذلك كنت أرى -بادراكاتي المتواضعةـ أن نمط الشخصية المصرية واضح جدا أكثر من غيره في شعوب أخرى ، منذ ذلك الزمن الى هذا الزمن انك تعرفه وتميزه جيدا ويصعب عليك وصفه.. وذلك يكفي!...
ومصر الرواية.. وهى أوضح أنعكاسات عن مصر بيئة ومجتمعا وبشرا ، وقوة تأثير الرواية والقصة في المجتمع المصري بالذات يفوق أي تأثير للرواية في التجمعات العربية الأخرى وربما كان السبب شراء شراح المجتمع المصري وحضارته في المعطيات التي تخصب قدرات. كاتب الرواية على الانتقاء والعطاء ، لذا طغى السرد الواقعي في القصة المصرية وبالذات عندما يمتلك الكاتب قدرات على فهم التركيبة النفسية لابطال القصة ومواقع الاحداث في روايته.. لذا فانك عندما تقرأ لنجيب محفوظ فانك تقرأ مصر.. وعندما تقر اليوسف ادريس نفرا المصريين.. والرواية في مصر بدأت محددة واضحة بالرواية الشهيرة للدكتور محمد حسين هيكل ( زينب)... ومازالت بذات المروح حتى بدأت تظهر التيارات الجديدة في الرمز والسوريالية وتأثر بها شباب مصر.. ومصر تحتاج دوما للقصة ذات السرد الواقعي لتعدد وكثرة الدراما والمعاناة ، وحتى الغرائب ضمن مجتمعاتها الصفعة. ومصر الصحافة.. وهذه المليئة اثارة وخيالا وطموحا منذ رواد الشام الأول وتجربتهم الغنية في الأهرام والمقطم الى الاجيال المصرية المتتابعة ودور الصحافة الكبير في ترويج المماحكات الادبية والصراعات السياسية ونقل الثقافة واخبار المجتمع ، وبرزت اسماء كافحت وعانت وغرقت وهي تزرع مدماكا في طريق التقدم الاعلامي في مصر ولاجل مصر... الى أن ظهر الاخران امين اللذان وضعا تقريبا وبشكل ثابت الصورة الحصرية للصحافة المصرية ، ولقد رزقا بطاقات لا تنضب وبحماسة لا تهفت وابداعات تتجدد.. وبدا الآن عصر ذهبي للصحافة المصرية احمد الله أنني اتابعه في بواكيره ومصر التاريخ، واقصد التاريخ القريب ( جدا) يوم ذهب المصري ( جدا) رفاعه الطهطاوي الى المدينة الأوروبية ( جدا) باريس.. ويسوم بدأ محمد علي في ارسال البعثات الى الخارج.. وحسرتي الكبرى أن اليابان انفتحت على العالم الخارجي في ذلك العهد ويجب أن تعترف أنه شتان الآن ما بين الدولتين والتاريخ ممزوج بالسياسة والعمل والدين ومرافق الحياة حيث تظهر الاسماء والاحداث من حجر رشيد الى مصطفى كامل، وسعد زغلول ، وحريق القاهرة ، واحلام بونابرت وتعالي ممثلي الامبراطورية البريطانية ، والى احداث مصر الآن. ولقد بهرت ببعض الاعلام المصريين وتابعت تقريبا كل ما كتبوه وكل ما كتب عنهم أو حولهم لقد غرقت في عالم العقاد الصعب ، وبهرت في دقته السيكولوجية في الحيقريات. وتجده في الفكر الشخصي لشكسبير ، وكارل ماركس ، وصفاء ذهنه الاسطوري واستيعاب ذاكرته الشارقة ، والدكتور عبد الرحمن بدوي ذلك الصعب الآخر وهو ينحت جبال بافاريا وبروسيا الفلسفية ويؤلمك بالمنهاج الالماني الفلسفي من كانت الى شوبنهاور والاستخراق العقلي المضني الجدلي للفلسفة في ارقى منطقها العقلاني الى د. نجيب محمود الذي غادر دنيانا مؤخرا راسما فلسفة عربية علمية راقية لمنهج سليم ووضعها بايجاز مقتدر في متن ما يراه مذكرات حياة في مصنفه الأخير (حصاد السنين) وما هي بمذكرات وانما تأطير اهداف لمنهج عميق بذل رحيق عمره من أجل أن يوصله إلى كل منا إلي واليك.. وأسماء، وأسماء الى الذين منهم منذ عقدين من الزمن ومنهم أنيس منصور والذي أراه ( ربما) متأثرا بشكل ما في شطحاته الخيالية بالكاتب العلمي الروائي الأمريكي اسحاق عظيموف.. ولكن لانيس منصور جوانب غنية كثيرة وقدرات ابداعية متفجرة وروح تتراقص خفة في جمله القصيرة ذات الحد المفاجيء.. ولو كانت علامات التعجب تباع في قرطاسيات القاهرة لاستهلك صاحبنا معظمها.. وانيس بلاشك قاريء عظيم، وعقل منفرد، وجال متنقلا في فلسفة الالمان. ومسرح الامريكان ، وفكر الانجليز ، ورومانسية الفرنسيين، وحرارة الطليان مجيدا للغاتها، ومستعرضا ذكيا لعضلاته فيها.. ويكتب في القصة وشطحات مع الميتافزيقيا ويلبس قناع الحكواتي المسلي مرات ومرات ولا أدري حتى الان الصفة الغالبة عليه أهي الفيلسوف ام المفكر ام الصحفي أهو مستقل الشخصية الفكرية أم مازال حائرا في دائرة العقاد ، أو هائما بين تعدد اهتمامات لا اقول ابدا أنه محاب بتعدد الشخصيات!!... وتخرج هذا الطاقة العقلية انه اعطى انتاجه أكثر من حقه واعطته الاوساط المعنية في مصر أقل من حقه.. ان كتابه في صالون العقاد لابد ان يقرأ في: كل اللغات الحية.. ولكن عليه أن يصدر من مساءلته في دقة المصادر!!.. ولكن.. على رسلي فقد استغرقت حتى غرقت وخيالات مصر نتري بلا نهاية مصر التي لم ارها واقعا وأكاد أعرفها أكثر من أي بلد آخر..... مصر التي داعبت مخيلات الافراد في العالم بخصوصيتها ورائحة الشرق المنبعث منها. والغموض والروعة الفرعونية ، وماذنها وازهرها العظيم. ومجراها المائي المارد وما حيكت حوله من أساطير أن كلمة النيل فقط تفتح آفاقا بلا نهاية لخيالات مجنحة. حتى اجاثا كريستي لم تنسه في بوليسياتها ، بل وكانت ايحاءاته من أعظم قصصها ، هذا شيء من مصر التي عرفت ولكن هل ستسنح فرصة أخرى للحديث عن مصر التي أود أن أعرف.... مصر كما يجب ان تكون!
* القاهرة جمهورية مصر العربية