التوازنية (1)

سنة النشر : 10/01/1995 الصحيفة : عكاظ

 
... انبعثت فكرة الموضوع عن التوازنية من شاردة فكرية من أحد الزملاء عندما كنا بصدد التحدث عن أحد كتابنا وأشار بانه يتميز بتوازن نفسي لقد اثارت هذه الكلمة في ذهني تداعيات بدأت بتذوقي لهذه الصفة وانتهت رنينا لا يهدأ للبحث في الموضوع بشكل شامل ما امكن لاتنى تلمست للتوازن النفسي وغيره من ضروب التوازن منافع سابقة. لو سادت لعشنا واقعا متساميا كذلك الذي حلم به الفلاسفة في تصوراتهم الفاضلة.. ولو قدر لهذا الواقع أن يكون في منتهي تجليه.... لوقفت برایی دينامية التاريخ الذى يأخذ زخمه وفورته من التضاد في المقاصد والشهرة والجشع والانسانية.. وكل الظواهر التي تدل على الميل العنيف للجانب التوازني في الشخصية وفي المجتمع. مع نزعات الخير والاصلاح والعمار ولكننا هنا بصدد التوازن النسبي الذي يتيح للناس وبالذات النابهين منهم الحفاظ على حياة عادية وليس بالضرورة نمطية تجعلهم لا يحيدون عن جادة ما وضع قياسا للفعل والتفاعل في حدود اعراف المجتمع وقوانينه.. وسأخوض الان بما تفاعلت معه ازاء التوازنية بمعناها الرحب بقارب فكري فى الشراع الواني في مياه معارفى القريبة الغور..
 
في التوازن النفسي سأورد لك حادثة من التاريخ العربي في الاندلس. ايام ريادتنا للعالم. تدل على معظم التوازن النفسي لعماء ذلك العصر. ذلك التوازن الذي قادهم الى تكريس عقولهم للاعمال العظيمة في المسار الانساني بعيدا عن التوترات التي تخل بالنفس وتدفع الغوص في الفردية المطلقة.. فمها هو الفيلسوف والطبيب العرب تربى ابن طفيل يعمل وزيرا وطبيبا لامير المتواجدين أبي يعقوب يوسف المحب للعلم والعلماء بمراكش ينعم برعايته وتقديره ويكب على علمه وإبداعه وتصنيفاته الفلسفية ومنها "رسالة في النفس" ونظرته الفلسفية السابقة في مقدرة الكائن البشرى بمحسوساته العادية وبمدركاته المتاحة فى الوصول الى الحقيقة العظمي وذلك في مؤلفه (حي بن يقظان) وقد رغب اليه الأمير بشرح كتب ارسطو وتصور معى نبوغ هذا الامير وولعه بالعلم بل أن هذا وضعه في صف العلماء.. فماذا عمل؟ هل تصدى برأس انف وقال انا لها ؟.. أم هل اكتفى من الغنيمة بالاياب واعتذر عنها ؟ بل قاده النفس الشاهق الى تقديم رجل أصغر منه توازي عقل وثاب وعلوم سابغة وقدمه على نفسه سنا أجل هدف مجرد هو نشر العلم. وكان من قدمه هو ذلك العالم الفيلسوف الطبيب مشعل العلم لمفكبرى أوروبا من بعد. ابن رشد النابغة في العليوم العقلية والشرعية والذي التصق به لقب الشارع لشرحه كتب ارسطو وبالذات شرحه المشهور (تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو). وتدرك الان ما انتجه الحضارة الانسانية جمعاء ، ذلك التوازن النفسى الهائل للفيلسوف الشيخ ابن طفيل.
 
طبیعی.. إذن التوازن النفسي للفرد المبدع هو ذلك الذي يقوده للتجلى فى حضاره ويعطي نتاجه منطلقا بدون قيد بينما تحفظ شخصيته الاجتماعية اتصاله الطبيعي مع المجتمع خارج نفسه وعقله لنلا يقوده د الانفصال عن بيئته من انقطاع امداد يوازن حياته التي في وعاء ذكره ، وكى لا تنتهي إلى الفرع والظلام وينهار عند من ذلك. الشيء الدوار في رأسه قبل أن ينجز مهمته.. وهذا ماحدث الكثيرين من اصحاب السيادة الفكرية. والذهنية والفنية في الغرب لقد فجر ارنست همنجوای رأسه وفي تلافيفه ابداعات لن تراها الانسانية قط وكانت هناك روائع لن ترى النور الترفاً نتاجاته التي طبقت الافاق حيث وضعت (وداعا للسلاح) و ( العجوز والبحر) لنفسها اطارا صنعاً بالبريق والمجد في عالم الأدب والرواية ولكن الافتقار الى شيء من التوازن النفسي الذي جعل الرصاصة تثقب اعماق جمجمته لتضع حدا ابديا التدققه الإبداعي.. وحيث بياع الان نتاج الرسام فان كرخ بارقام منتفخة أضاع هذا المصدرس حياته ومواهبه الحساسة فلم يستدل التوازن النفسى الى روحه الهائمة البائسة وعبر باخفاق توازنى مريع عن جبه بنزع اذنه.. وانتهى مبكرا إلى حيث ينتهي الخيل والمذهونون.. والأمثال تترى ولاتنتهي في العالم الغربي من بيكسبو الأرعن الى المشدوه سلفادور دالی وعندما تنظر الى مبدعينا وهذا خير عميم لم نفقده ستجد ان التوازن النفسي صفة حاضرة لديهم وبدون جهد لصيانته والحفاظا عليه والسبب الأول في ذلك السكينة الدينية والوعى الحاضر للمقبولات الاجتماعية. فلائری مفكرا او عالما ساد را مشوش الشعر او شاذ التصرفات فاضح الافعال.. بل أن مبدعينا البارزين منهم بالذات يقودون مراكز رسمية بالغة الحساسية بتوازن نفسى يجعلهم يملؤون المنصب ولا يعلوهم ، وذلك باحتراف جاد وذهنية قاطعة وتراهم يذوبون ابداعا عندما يعيشون مواهبهم.. وهناك أسماء اشهر من أن تعرف.. وإن لفتني مؤخرا قطعة صغيرة من الشعر الباذخ الاثر لسفيرنا في موسكو (ولك ان تتصور سفيرا ناجحا وشاعرا مرهفا في أن في مدينة تغير جلدها من الأيدلوجيا الى السوق بأكبر حدث دراماتيكي في عقودنا الأخيرة).
 
إن التأثير الديني والروحي يشد مرساة التوازن النفسي للمبدع فانك حين نقرأ لترماس البوت تجد أن شعره في بدايات حياته الفكرية اتصف بالتعقيد والغوص الأسلوبي والقلق المشحون والقنوط من الحضارة التي يحياها في ايقاعات ثائرة صارخة ونازفة (انظر قصيدته الارض الخراب ۱۹۲۲ وابحث عن نتاجه في الثلاثينيات حين اعتنق الكاثوليكية) واتسعت الفاقه اللامادية وفاضت قصاته بالمعاني الدينية وهدا تباره الجارف يتهادى سانغا مثريا فاق نظراءه جمالا واثرا كما في قصيدته (أربعاء الرماد ۱۹۳۰) ومقالاته النقدية في أروع ماكتب عن أدب القرن السابع عشر... في التوازن الفكرى وهذا عاني منه مفكرونا وبالذات في بدايات عصر النهضة الفكرية في الشام ومصر وضاع التوازن الفكرى برجحان أحد گفتی تیار الاستغراب او تيار الجمود فجبران خليل جبران انتج كلمات حالمة وموسيقى جديدة في الأسلوب الذي اقتبسه من مهجره الامريكي ومن خلجاته الفرنسية ولم يتصل مطلقا بالجذر الثقافي العربي.. بينما ترى أمين الريحاني يبدأ عربيا وينتهى متوازنا في مؤلفاته الأخيرة وينقل ادواته الغربية لينهل من جذور عربية ضاربة. وطه حسين انام المجتمع الفكري في العشرينيات عندما رجع ودماء عقله تشبعت بالمدنية والثقافة الفرنسية وسكن ديكارت في بديهته بمبادئه المتشككة وطوح طه حسين بعيدا عن التوازن الفكرى قالها جذوره العربية ليرمبها في أعماق المتوسط عند ايابه من أوروبا.. وفي فصول فكره الاخيرة دخل التوازن الفكرى اعماق الرجل وسطر ابداعات تسجل ندما لم يجاهر به على ما اقترف.. وفي رأيي أن ما يجعل عقل العقاد بیز طه حسين هو ذلك الانسجام التوازني الذي وضع حدودا ساطعة وفواصل تقاطعه لثقافته العربية والماماته الانكلوسكسونية الهائلة. ولقد شعرت باطمئنان عميق وانا اقرأ مؤخرا لاحد مفكرينا (د. البازعي) عما كتبه عن رفوف مكتبته وما يهجع عليها من مراجعه الانجليزية وكتبه العربية فان لم يكن ذلك التوازن الفكرى.. فالأجمل أنه يسعى وراءه...
 
وللحديث صلة