الموهبة .. والنمط

سنة النشر : 19/07/1994 الصحيفة : عكاظ

 
ما الذي يجعل الأديب متفوقا. والمفكر متفرداً أنها بالتأسيس تلك الانبعاثات الحميمة التي تخرج من الذات.. من ضمن معاناة حقيقية وجمع للمعلومات والمعطيات بصفة ذاتية.. وإخراجها برأي مستقل لهدف واضح للمتلقين.. وإضفاء -وهذا مهم- الأسلوب المميز والمرتبط كالصفة بشخص الأديب وصاحب الفكر..
 
وذلك هو العيب الذي يكون دائماً وراء الأدباء المتفوقين ووراء المفكرين التابهين. كما انه ذات السبب الذي يجعل هؤلاء الفئة قليلة ومتميزة.. فلا يمكن لأي من يرش الحبر على الورق. أن يكون كاتباً.. ولا يمكن أن يكون لكل من يصف حروقاً ويعكس خواطر مباشرة وساذجة لائقاً لأن يوضع على رأسه تاج المفكرين...
 
ماقلته فرض صحيح.. اتفق عليه المعلمون الأوائل وأثبتته أجيال من الزمن والناس. والتجارب ولكن هل تكون الفرضية دائماً تتوافق مع معطيات ومشاهدات الواقع.. فلنر... عندما تطالع الاسماء اللامعة في مصر على سبيل المثال فإنك تجد اسم أنيس منصور من تلك الاسماء الشديدة البريق. ومع تولعي الشخصي بما يكتبه هذا الرجل وقراءتي لمعظم كتبه.. الا أنك تستطيع ان تطلق عليه ما تريد من الالقاب والصفات الا التميز في الخط والتخصص في المنهاج.. فهو ينقل كثيراً من الكثيرين ويتمتع بذلك ويريح نفسه.. ويكتب لجي مجالات عدة مستنيرا الامقتبسا!) باراء وجهد صفوة من الشخصيات العالمية المرموقة في تخصصات ومدارس متعددة.. أنه لا يدعو الى خط محدد متواصل.. ولا ينادي بمبادىء لا يحيد عنها.. ولكن ينتقل بين افكار الآخرين ويعطيكها بلا تواصل متخصص.. ثم انه أن كتب في شيء الكواكب محدد ( مثل ماكتبه عن الحياة في ال الأخرى فإنه في الحقيقة كان استلهاما من كتاب عظام في الأدب العلمي.. أو في الخيال العلمي ف على رأسهم ذلك العبقري الذي لا يجاري ايزاك عظيموف بأدبياته العلمية الرائعة.. وافكاره المطلقة فيما وراء أبعادنا الملموسة ، بل أن بعض ما كتبه استفادت منه وطبقته وكالة الفضاء الأمريكية.. ثم إنه أن كتب في المسرح فقد ( تأثر) اشرة بمسرحيين رواد كديرينمات السويسري وآرثر ميلر الأمريكي.. وصحيح أنه متخصص أكاديمياً في الفلسفة ولكنه لايملك أو بدقة أكثر) لا يعطيك طرحاً فلسفياً متعمقاً من (عندياته الا تلك الشطحات الجميلة التي تضفي رونقا لاسلوبه الممتع.. فأنك لن تقارنة بمفكرين فلاسفة الفنو) سنوات من عمرهم في خط منهجي رائق والأهداف واضحة مثل الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي نحت الصخر الفلسفي الباقري بالذات ( ماكتبه في الفلسفة الالمانية عن شوبنهاور مثلا ونيتشه.. وهيجل أو مثل الدكتور زكي نجيب محمود في انتهاجه الفلسفة الوضعية العقلانية والرياضية) باتباعه الطرائق المذاهب الفلسفية الانجلوسكسونية وتطبيق- أو محاولة تطبيق- ادواتها على وضع المجتمعات المصرية والعربية.. ويبقى أنيس منصور صحفيا بلا صورة.. ورجالة بلا جغرافيا وفيلسوفا بلا منهج ، ومفكراً بلا طريقة.. هو كل شيء.. وليس شيئا بالتحديد.. الا اسلوبا تستشف منه انيسا حال ما تقع عيناك على موضوع له.. ولدينا في المملكة الكثير من الأدباء والمفكرين ونحن حالة خاصة لو اتسع الوقت والعقل تكتب في ذلك بحث شائق- وكحالة عامة تجد المدارس العربية والأفرنجية متمثلة تماماً في المملكة والخليج ، فانك تلاحظ الذين ينتهجون الطريقة اللبنانية في الأسلوب. والكتابة وأولئك الذين يتبعون المدرسة المصرية في التعبير.. كل مجموعة حسب ما أتاح لها الإطلاع والدراسة. وربما السفر.. فمن الصعب فعلا ان تتلمس حدوداً لمدرسة سعودية أو لخليجية و ان تسرد عناصر المنهجية الفكر في هذه المنطقة.. بل ان طلائع مفكرينا وبالذات في الحجاز قد تطابقوا مع المدرسة الفكرية المصرية ليس بالاسلوب فقط بل حتى بالتطلعات والطموحات والعواطف أنذاك.. ونمت علاقات بينهم وبين أدباء ومفكري مصر وبالذات منذ الثلاثينيات الميلادية حتى نهاية الخمسينيات.. فهل تأثر الأجيال اللاحقة بمدارس الشرق العربي.. والمغرب العربي. وربما كان الاستثناء صحيحاً على بعض الرواد والمفكرين من المناطق الوسطى في المملكة.. والذين تكون فكرهم واسلوبهم ممهوراً بطبيعة الحياة وخط التقاليد ، ومناهج البحث ، والروح المحافظة التي يتسم بها التجديون... وحتى الآن من النادر وبالذات في الطلائع الفكرية القادمة ان تجد اديبا أو مفكراً يحمل راية مستقلة في الأسلوب والمنهج وان كان لدينا متفوقون في مضامين عدة الا ان صفة التفرد والعملقة مازالت شاناً غائباً وأمراً لم تتجل تمخضاته.. بل أن. التسابق يبدو واضحا في صحفنا ومجلاتنا في الجري وراء الأكاديميين حملة الشهادات العليا أو وراء اسماء خاطفة في وظائف الدولة أو ميادين الاعمال.. وحتى الآن لا يبحث القائمون على هذه الصحف عن الفئة المطبوعة من الموهوبين الذين خلقت مع خلاياهم كنوز الموهبة وعبقرية الايصال ووهج الفعل والتفاعل. وهذا عصر نمطي ضاعت فيه قيمة التفرد العبقري للإنسان. وبدات تقرأ لكتاب يحومون على نفس الاسلوب ونفس الفكرة ونفس الاعداد والطريقة أنهم نوع من آلات ناسخة بشرية.. أو أدمغة انسانية موحدة البرمجة.. وتلاحظ النمطية كصفة للعقود الاخيرة من هذا القرن. لقد كانت السيارة مثلاً نتاجا عبقرياً وقتاً متميزاً فيه مزيج متوفد من العلم والفن والعرهبة وكانت قطعة من الفن المتجرك بقبسات من التذوق الجمالي الفردي حتى صار لكل نوع من السيارات شخصيات متميزة وراء ثورة الابداع أو اخفاقات الجهد. والان في هذا الزمن النمطي صار الكمبيوتر يعطينا قالباً موحداً من الأجسام الانسيابية الايرودينامية لكل انواع السيارات.. نماذج بلا قلب.. نماذج لم تصهر مع عرق الموهوبين ونبض عروقهم.. علينا أن نبحث عن مواهبنا.. أو نكف عن أدعاء الموهبة ان لم نكن نملكها... ولاباس أن نكتب كمتخصصين بلغة العلم والعمل والباس الثقيل أن نجول حول الابداع ونحن. لا تقتنيه ولا نعلم له طريقاً.. ولم نسع فيه دربا... والأدهى لم يبعث معنا يوم خلقت أرواحنا والمواهب كما قبل منذ القدم عادة ماتكون مثل الحجر الثمين غارقة في طبقات الأرض وبطون المناجم.. وعلينا ان نبحث وعلينا أن ننقب.. وستخريج المواهب تشع في العقول وتبرق في القلوب وعلي أن أحذر أولئك القادرين على الكتابة واستيلاد الفكرة الناضجة بأن يصوغوا اسلوبهم منهم من شخصيتهم وتفردهم.. انني أقرأ لبعض كتابنا وأرى صور مفكرين عرب تتقافز من بين السطور.. وأعفوني من ضرب الامثال ولتكبح جماح عربساتنا الآن والانتهافت على البرق الخلب ليمطر أو مع ذاك الذي ينفخ صدره لينبو عن الصف... فان المواهب لا تلتقط من الأرض ولا تقتحم عبر النوافذ.. واسع الآن على أن نملك موهبة البحث عن المواهب.