إجازتهم .. وإجازتنا ..

سنة النشر : 12/07/1994 الصحيفة : عكاظ

 
أتذكر في أيامي البساكرة في مراحل الدراسة المتوسطة والثانوية اننا كنا نستقبل العطلة الصيفية بالكثير من الترقب والتوجس واشتباك المشاعر.. خليط من الفرحة لانتهاء الجد التحصيلي والقلق مما هو مطلوب منا في الصيد... أنذاك لم تكن العطلة لهوا ولعبا وراحة مطلقة للكسد الذهني والضغط التنفسي.. ولم تكن العطلة تعني ادارة جهاز مبرد الهواء والانطلاق مع الاحلام الباردة ظهرا وليلاً.. أو التصاقا سياميا مع جهاز التلفزيون عبر محطات الفضاء والأرض. كما لم تكن بطبيعة الحال تعني ركوب المطوحات الهوائية في عالم ديزني الامرياني او الاوروبي.. أو الياباني.. ولم اكن شبة هواء في ماربياد او التسطح على الامواج العاتية ففي جزر هاواي.. ولم نعط وقتها ولاحق التسكع في طرقات بلدتنا او اللعب في ساحاتها.. كان يجب علينا ان تنقض واجب الدراسة والاستذكار لنستعد لواجب العمل.. أو البحث عن عمل كما تعاملي صيف.. أو ندربي صيف.. في الشركات العاملة بالمنطقة ولحقلنا- ان كان حسنة أو سوءه لا أدري- فان العمل بتلك الشركات كان يعني شيئا شبيها بالانخراط في السلك العسكري حيث الالتزام المسارم بمواعيد العمل والالتزام الصارم بزي العمل والالتزام الصارم باداء العمل المنوط بالواحد منا.. واصدقكم تألمنا كثيرا ، وضقنا بحالنا كثيرا ، ولطالما انهمرت دموعنا في تلك المراحل اليافعة الهشة من العمر لتلك القيود الضنكة التي تقيد وقتنا وعقلنا وبهجتنا وتعصر قلوبنا.. لكم كنا نود الانطلاق بلا حبال شادة للعب ، والجري والنوم. والحذر اللذيذ في الاستمتاع بالا تعمل شيئا ذا بال.. شيئا جادا حازما او ما يراه الكبار جادا ناقعا.. ولكنها احكام الكبار الى الصغار الذين لاحول لهم... ولا رأي.. فقد كان النقاش مع الصغار وقتها ترقا مجوجا ومدعاة للتندر والضحك). وتدور عجلة الايام التي لا تقف ولا تعطل.. ومثل المئات من جيلي.. عطلة بعد عطلة تعمل في شركة هنا ، وشركة هناك.. في مدينة هنا وفي مدينة هناك.. وتعاقبت علينا الاعمال.. وتنوعت المصارف والخبرات وان كانت أنياسا صغيرة ضئيلة ومعها التأفف والزفرات والتصبر والانصياع.. وفي داخلنا الذي لا نعلم عنه شيدا تبلورت مع الزمن شخصية عملية وخبرات متراكمة.. وتجارب عملية.. احتجنا إليها في ( خارجنا) في العالم الذي تتعامل معه ابتداء من الاغتراب في الدراسة الجامعية وحاضرا في مقابلة مناجات العمل، والمجتمع ، والعائلة.. لقد تدوم هي السنين في وعينا فقط من التجارب الصغيرة امطرت علينا مرونة في حل مشاكلذا والسعي لمستقبلنا والقبول لكل ما من شأنه ان يوسع مداركنا.. ونمى في الكثير منا التعامل والمعرفة مع الواقع ومتطلباته.. وعرف الكثيرون عنا طعم التعامل النفعي المجرد- بعيدا عن الاهل- العليء بالاوامر الباردة والتوجيهات المحددة التي لا تعني لك شيئا حميما إن لم يكن النقيض تماما ويعني كل شيء للمنشاة التي يزجرك المسئول فيها ( طبعا اله أول الصغير).. فتقبلوا عند نضوجهم واقع ان تكون مرؤوساً وتعمل آلياتك الذهنية والعضلية من هذا المنطلق.. ولم تحلق بهم غيبوبة اللذة في أن يكون الواحد منهم رئيسا فيتعامل مع واقع ان الذي يكرس من بقائه في القمة الصغيرة الاكتاف التي تعمله والتي رضيت به رئيسا وبامكانها الإخلال من توازنه ساعة ان قرر ان ينام عليها- أو عنها.. وتعزز من مكانته ظروف العمل ومعطياته التي من الممكن ان تجمع به كمهر شموس ان ضيع السيطرة عليها واضاع حبال نجامها.. التعامل مع الواقع. ولبوله.. وتحسين الحال من خلاله أن عميق لا يكتسبه الا أولئك الذين تعرضوا لوقائع الحياة وشربوا من حنظلها.. ولفحت وجوههم هجيرها.. هم تلاميذ الحياة النجب.. لا يعني قطعا نجاحهم في مسالكها.. وكمائن الدروب بها.. ولكنه حتما ينفع في المساعدة لاجتياز معضلاتها وتخطي صعابها والحفاظ على رباطة الجاش واتزان العواطف والتخطيط العقلي السليم والعاصفة تدور في اعنف محاورها.. ان لم تكن هذه التجارب مفتاحا رئيسا للفوز والنجاح فهي بلا ريب جهاز رائع لامتصاص آثار التعثر والوقوع في مسالك الحياة.. وها نحن نرى أن شيئا مما كان يعانيها) جيلنا قد بدا في الانقراض عند الاجيال الحاضرة. وعندما نروي لهم ذلك نبدو كديناصور ينقرض وهو يصر على كونه في زهرة الحياة.. فقد صارت العطلة الصيفية. وبقناعة لا تقبل ليس الجدل فحسب بل حتى مجرد التفكير حقا مكتسبا التلميذ لاراحة جميع الاعضاء.. ولابأس من الضغط على النفس لتحريك الافواه لشطائر اللحم والايس كريم وتركيز البصر على السلاحف والوطاويط في الفيديو والتلفاز. وان غلبت الروم فتحريك عضلات القدم المتثاقلة على شطآن البحار في المداخل او الخارج.. انني لن انسى ما حييت فضل آبائنا وامهاتنا من ذلك الجيل الذي يقيس بميزان الرجولة للطفل عندما يخرج للتعرض للهواء الجاف خارج منزله وباختيار محسوب) والفتاة التي تحمل من اليوم رقما واحدا مسئولية كامل البيت.. ولن انسى ان متعتنا المسموح بها كانت القراءة.. ولقد كنت امتلك مكتبة تجد منها اسماء ابن تيمية وطه حسين والعقاد وفيكتور هوجو وايزاك عظيموف.. وكنت خارجا من الصف السادس الابتدائي.. كرهت ذلك أم أحببته لكنه ترك في- رغما عني- شيئا من الثقافية.. وقدرات ليست كبيرة على الشعر.. والخط.. والرسم الانطباعي.. وفوق ذلك خبرات عملية صغيرة ومتشتتة.. تسعفني في عثراتي وانا اسعى مثل غيري في الطريق..