نصال التلوث
سنة النشر : 19/04/1994
الصحيفة : عكاظ
في.. ما الذي يحدث أرضنا هذه!! هذا الكوكب الذي لا نملك له بديلاً.. هذا السيار الوحيد الذي يتيح لنا ظروف الحياة... ونعمل فيــه-جهـدنـا- على تدمير مظاهر الحياة.. وحيث انه يجب الا ينساق المرء منا الى كهوف التشاؤم وسواد الرؤية.. على أنه لابد أن يزيح عن عينيه ويرفع عن بصيرته ما يغشاهما من موانع تصده عن أدراك مظان الخطر ، ومكامن التهديد التي تستنزف بيئته وتشوه محيط حياته.. ولك أن تسترسل في استعراض ما نعمله نحن البشر- سكان الأرض- من خراب وتدمير إهمالاً أو قصداً في بيتنا الكوني.. ولكني أود أن أسجل مظاهر مفزعة ومحزنة للتلوث التي تلطخ إشراقة كل يوم من أيامنا هذه.. ومما يخفف من حدة الآثار الأليمة من هذه المظاهر النزعة الكامنة التي زرعها الله في جنسنا لمقاومة مصادات الحياة وصيانة الاستمرار والبقاء.. على ان مظاهر التلوث التي بصددها لن تخوض فيما عرفناه واستوعبناه وخفنا منه وتألمنا من اجله من مظاهر التلوث البيئي.. كذبح البحار والأنهار أو تتويج قمم الجبال بالمخلفات أو المطر الحمضي.. أو فجوة الستار الأوزوني.. إنما سأخوض ويعلم الله أنني لا أحب أن أكسر نصالاً فوق انصال معاناتكم- في مظاهر التلوث من جوانب اخرى.. ولنستعين بالله ونبدأ.
النصل الأول: التلوث في الحياة الفكرية بعد أن سادت لقرون اداب انسانية مهذبة رفعت الانسانية الى مقامات سامقة في السلوك والحضارة والتفاهم الجماعي في المسرح والفلسفة ، والقصة والاجتماع ، وكان هدفها الدائم ترسيخ القيم العامة والجماليات المطلقة أو الغوص في التركيبات المعقدة للنفس الانسانية.. تجد الآن رفوف المكتبات العلمية تطفح بكتب تسجل أرقاما شاهقة في مبيعاتها لأنها فقط مذكرات لداعرة- عفوا كما دونا.. أو لفضائح منحلة.. أو لكتاب يعلم القارىء كيف يغتال نفسه....
النصل الثاني: التلوث في الحياة الاجتماعية سادت في العهود الغابرة المذاهب النبيلة والمعاني المطلقة والفروسية والشهامة كمعايير يقتدى بها أو يدعى بها نظرا للاخفاقات الاخلاقية في بعض العناصر البشرية- ولكن لم يكن هناك حتى مجرد الجسارة على الاختلاف حول تسامي وشرف الصفات الطاهرة. بينما تكرس مجلة امريكية شهيرة في زماننا هذا موضوع غلافها عن المجتمع « المتسامح »! في هولندا الأراضي الواطئة كما تعرف والذي قبل – أو تقبل- حياة الجنس الواحد والعياذ بالله تحت سقف واحد.. بل – ويا للهول ( بروعها الواقعي لا بفخامتها المسرحية تبني الأطفال. وتحتار أهي الأراضي الواطئة أم المجتمعات الواطئة ؟ وتموج جادات المدن العظمى في امريكا واوروبا بتلك الكائنات المشوهة تطالب بالمساواة لشذوذها وانحرافاتها.. التي لم تعد تحت غطاء.. بل يجاهر بها ويعتد بها أصحابها.. وانظر التسابق الاجرامي لأبطال الجرائم النتنة المقززة المتسلسلة ، يتنافسون للحصول على فقرة في كتاب جينيس للأرقام القياسية.
النصل الثالث: التلوث في الحياة الاقتصادية: لن اعود الى التكرار والتحسر على ماولى وفات ، ولكن لتلوي اعناقنا رغما عنا وننظر الى مايدور في الأروقة السفلية والقاعات العلوية في عالم التجارة والاقتصاد لنجد- يالحسرتنا ان اكثر الاعمال رواجا وربحية هي التي تخالف القوانين ، أو تلتف عليها ، أو تمر من خلال ثقوبها.. فترى مروجي المخدرات ومديري شبكات القمار ومتعهدي سلسلة الزوايا الحمراء صاروا أباطرة للمال في العالم. ناهيك عن مصانع وربما شبه دول تقتات على ملء الاسواق بالبضائع المزيفة التي تجلب الخسارة وتنقل الدمار. وتنظيمات عبر العالم تقوم على اصطياد المراكب في اعالي البحار وتغطيسها للأبد كما عرفت لتظهر من جديد بحلة أخرى! والدور المالية التي كنا نراها متينة البنيان تتهاوى بسبب تفسخ القاعدة وتحلل الأعمدة.
النصل الرابع: التلوث في الحياة السياسية وما أدراك ما الحياة السياسية!! وانت كقاريء فطن ستبادر بسؤالي مستنكراً ومتى كان هناك فضيلة سياسية منذ ميكافيللي ومصنفه ( الأمير) وقبل وبعد ذلك ؟! ولكن دعنا نلجم خيولنا المندفعة ، ونتروى.. أن السياسة لم تعدم خلال التاريخ قادة أفاضل عظاماً.. وصحيح ان السياسة كانت دوما فن الممكن.. وتفوق فيها الذرائعيون.. ولكنها كانت سياسة منمقة منشأة ومعطرة بالمبادىء المحلقة والمناداة بالصدق والخلاص.. كانت المهارة السياسية كيف يبدو السياسي صعبا مستهاما بمواطنيه- وربما قلت درجة العاطفة داخل حنايا أضلعه الباردة وكيف تشع صفة الالتزام بالمواثيق والعهود وربما حلحل ربقة هذا الارتباط في ضميره- ولكن في بعض دوائرنا السياسية الحاضرة ساقت الأمور الى المجاهرة بالنداءات البشعة والاسقاطات المريضة وتبرير الحرق والإبادة افلا يقطر قلبك دما في البوسنة وفلسطين ؟!- وساد التشوه التكويني للرأي العام السياسي حتى في الامم العظيمة أو تلك التي كانت عظيمة.. وها أنت ترى النتيجة عندما أفرزت هذه البيئات كائنا سياسيا مسخا فلاديمير جروفنسكي....
وفي نهاية المطاف أطلبكم المعذرة ولكن هذا التلوث حولنا ويحاصرنا ولا يمكننا انكاره. فقد صار واقعاً.. ونتوسل الى الله الا يكون مصيراً!