وابنتاه ..
سنة النشر : 15/04/1994
الصحيفة : عكاظ
.. هل لي أن أتحدث في شأن لي...... إذن أدعوكم الى مشاركتي في كل ماكان يتفاعل في ذهني ويمر على خاطري في يوم الأربعاء الفائت... المشهد الأول: ها أنا أنتظر كملايين الأزواج أمثالي في ذات اللحظة ، وخلال الزمن الماضي وعبر الزمن القادم.. انتظر وداخلي دوامات من المشاعر المختلفة والاحاسيس المستنفرة والتوقعات المشوبة بالفرح والتوجس واللهفة. وذلك في بهو جانبي في جناح الولادة بالمستشفى.. ولم يكن ينقص المشهد المألوف الا منفضة سجائر تمتلىء بعد لحظات حسب تعليمات المخرج بأكوام نصف منتهية من لفافات السجائر.. ولكن البطل هنا ليس مدخنا.. وعدا ذلك فلك ان تسترسل في المشهد حسب ما يسمح لك اجتهادك السينمائي.. المشهد الثاني: على انني كنت-ربما- اختلف في توجسي عن الكثيرين لسببين الأول انني احلم وادعو الله أن يرزقني بمولود أنثى لتقر بها عين أمها وعيني.. ولقد حشا الله قلبي بعاطفة فوارة نحو البنات فالبنت عندي هي تشخيص للدعة والبهاء والحدب والتوازن والصفاء.... وحيث اننا نواصل شكرنا لله ليل نهار فرحين بعصبتنا الصغيرة من الذكور الوثابة- حفظهم الله- الا ان نجمتنا البراقة في سمائنا الصافية هي وحيدتي نورة ذات الاربعة أعوام ، وفي انسياب مياه حياتنا الدافق تكون دوما تلك النوارة البيضاء التي تتموسق على صفحة الجدول الرائق. لذا كان لي أن أطمع بنوارة أخرى لتضيء في ركن ما في القبة العلوية.. والسبب الثاني.. انني- وليكن لي على الأقل فضل المعترف تعجلت الأمور نوعا ما والححت أثناء فترة الحمل على معرفة نوع الجنين برغم اعتراضات زوجتي -التي عادة لا أملك من الجسارة ما يكفى للاعتراض أمامها- وبرغم تمنع العاملة الفنية على جهاز الاشعة فوق الصوتية التي اخبرتني بعد لأي بأن احتمالاً نسبته ٥٠ ٪ في كون الجنس أنثى..... وفقدت الجاذبية من تحتي وطار التوازن من حولي وحلقت بقرار مني بنسبة 100 ٪
المشهد الثالث: ( عودة الى ذات الردهة الجانبية في جناح الولادة بالمستشفى) تراني انتظر صرخة المولود القادم وأعصابي كلها خرجت مني لتحاصر جسدي وتعصر تفكيري.. وبقي خيالي يتسع في آفاق قصية وقريبة وأماد بعيدة وانية كمهر نافر وحشي يخطر كالبرق في سهول شاسعة.. ياترى- أخاطب نفسي بالطبع كيف ستكون شخصية ابنتك القادمة وماذا شاء لها الله من نصيب في الناقلات الوراثية منك ومن أمها ، وعسى الله قد منع عنها بعض الجينات التي تخصك وتعرفها جيدا- مادمت في صدد الاعتراف فيها أمام نفسك- وأن يكون قد منحها كثيرا من الجينات اللطيفة والسمحة. أم أنها قد تشط عبر تلافيف الأجيال الماضية وتتداخل فيها بمقدرة حكيم عزيز جينات تبنى في خلاياها شخصية أسطورية من تلك الشخصيات النسائية اللائي ملأن التاريخ وشغلن العباد وطافت الرؤى التي استدعاها الخيال الأبق من ملفات العصور الماضية.. وها أنت تسترجع أسماء بنت أبي بكر الفتاة العظيمة ابنة الأب العظيم والصاحب الصدوق رضي الله عنه لنبي العالمين صلى الله عليه وسلم ، وهي تشق نطاقها وتشحنه لهما بالزاد وتفتر من شفتيك كلمة مخنوقة وابنتاه. وفجأة تقفز شخصية ذات أنفة وإقدام ولطالما أعجبتك هذه المرأة التاريخية أسماء بنت يزيد تلك الأنصارية التي سماها العرب آنذاك بالخطب نسائهم وأشجعهن.. والتي حفرت في صخور التاريخ سطورا من البطولات في معركة اليرموك حيث سقت وضمدت الجراح ولما تطاير لهب الحرب تمنطقت بعمود خيمتها وغابت في غبار القتال المحتدم لتصرع تسعة من الروم.. وتفتر من شفتيك الكلمة المخنوقة.. وابنتاه. و إلى تلك الكتب العتيقة التي طالما قرأتها يأتي الخيال من أساطير اليونان بابنة اجاممنون- الكترا التي حثت أخاها اورستس في الأخذ بثأر أبيها وأصبحت نظرية اني عرف علماء النفس.. وتفتر من شفتيك الكلمة المرتجفة.. وابنتاه. وتبدو قسمات هادئة لامرأة عبقرية أخذتك رواياتها لفترة من الزمن الروائية الأمريكية لويزا ماي الكوت ( من القرن التاسع عشر التي عملت في سن مبكرة ولاقت صنوفا من الأذى لمساعدة ابيها للتخلص من براثن الفقر والفاقه.. ومن ثم روت كل تجاربها في كتابها ( العمل).. وايضا الكلمة المرتجفة.. وابنتاه ماهذا ؟ ماهذه الشخوص التي ماتزال تترى تطفح فوق ذاكرتك وتموج في تهويماتك هاهي عذراء أوليان الرمز القومي لفرنسا- جان دارك- التي طوبت قديسة بعد أن أحرقها الانجليز لفتوحاتها المذهلة لأورليان واقليم اللوار وبهزيمتها للانجليز في باتاي ، وتغلت الكلمة المرتجفة.. وابنتاه......
وفجأة تفلت الصور وتتماوج الرؤى ويتسارع الشريط وتمر وجود ووجوه عبر أزمان. وأزمان.. الخنساء. زبيدة.. مدام كوري.. الى متفوقات حاضرات والنفس وراء ذلك يلهث والاحاسيس تتشاحن... والقلب يضطرم والخفقات ترجف.. وتتصاعد.. والكلمات المرتجفة تشابكت بحب مصر وعاطفة محمومة.. وابنتاه.. وابنتاه...
المشهد الرابع: تتقافز إليك الممرضات بشوشات..فرحات ولد ولد.. تفاجأ!! وتشكر الله.. الذي يعلم مافي الأرحام...
المشهد الخامس: إنني فرح فرح جدا.. واجري لأضم بحب لا يهدأ.. ابنتي نورة!!