الوطن الحلم
سنة النشر : 26/09/1995
الصحيفة : عكاظ
في بلد بالغ التطور وصلت فيه الانظمة الحضارية الى معـــــــلاتهــــا القياسية وبات مثالاً يشار اليه وأملا يتطلع اليه رأيت منظرا لا أظن اننى استطيع نسيانه كانت مجموعة من الرجال والنساء في انتظار الحافلة التي ستقلهم من محطة الى محطة أخرى. وبالفعل وصلت الحافلة حسب موعدها المجدول. فتدافع الناس الى داخلها وحيث انها كانت شبه ممتلئة أساساً فقد كان تدفق الجمع الى الحافلة يتسم بالشدة والتجاذب ونجاة وكلت امرأة شابة الى الخارج متدحرجة على الرصيف وقامت تتطلع إلينا -نحن المندهشين- بنظرات تفيض الماً وخجلاً وحرجاً وأظن الكثير من الاحساس بالقهر... لقد المنى هذا المشهد ولاشك انني شعرت بالشفقة على هذه السيدة.. وتطلعت بعيدا متاملاً إلى البلد الذي يكاد ان يكون حلماً كلما نايت عنه.. حيث أن للمراة احتراماً كبيراً.. تتقدم الطوابير والصفوف.. وتباداً بالخدمة قبل غيرها.. وتجنب كل ما يجرح حياءها أو ينقص من كرامتها... وكنت أيضا في أحد البلدان مع أخوين من رجال الاعمال لإنجاز بعض الاعمال الخاصة بنا وكنا نجفل- نوعا ما- من الخروج الى الشارع المواجه لفندقنا لكثرة من حذرونا من أعمال الشغب والمتسكعين الخطرين الذين يترامون في اركانه ومنعطفاته.. لذا بالغنا بالاحتياط والحذر وصرنا نستقل سيارة أجرة من الفندق الى اماكن محددة تنجز بها اعمالنا ثم نعود... الى أن جاء يوم.. اصابنا فيه القدر رغم المذر.. أخذنا مواضعنا داخل سيارة الاجرة وطلبنا من السائق أن يوصلنا الى مكاننا المعتاد.. وفعل ولكن طالب بمبلغ مضاعف عن المبلغ المعروف ، وكبرت في أدمغتنا الا نسمح لهذا الرجل بأن يستغلنا.. فاعتدلنا بشجاعة تحسد عليها.. وتوثينا له كالسباع الكامنة وهددناه بالويل والثبور أن لم يأخذ الحصة المعتادة مع شيء من كرمنا لا من خديعتنا الا ان ما حدث لم يكن في الحسيان.. لم نسمع سوى صرير عجلات السيارة وهي توقد النار باحتكاكها بأسفلت الشارع واذا السيارة تنطلق كالزوبعة.. وتجمدنا في أماكننا.. وربما فغرت أفواهنا وكادت ان تخرج عيوننا من محاجرها.. أن هذا على الاقل ما رايته في زميلي ولا أظنني كنت مختلفا فالشجاعة التي تتحلى بها موزعة بيننا بالعدل والانصاف.
وفي مكان غير مطروق وقف صاحب السيارة بعنف وقسام يعنفوان عظيم شاهراً سكينة بدت لنا نحن الذين تعودنا على المعارك والحروب- كالسيف العظيم.. وقد ارتجفت اوصالنا حتى كدنا نتخيط ببعضنا من شدتها ولا أظن ان تلك الرجفة كان مبعثها البرد القارس فذلك البلد لم يعرف شتاء في تاريخه.. ودسسنا ايدينا بحركة واحدة في جيوبنا وقفز المجرم متحفزا يحسب اننا سنخرج مسدساتنا الكاتمة للصوت ولكننا بردة فعل سريعة يحسدنا عليها أشهر حاملي المسدسات في الغرب الامريكي أخرجنا ما في جيوبنا من مال ومددناه أمام وجه السائق الذي فاجأناه بتصرفنا الـ. جريء!! عدنا الى فندقنا ذلك اليوم ونحن نتطلع الى البلد الحلم حيث الامن والامان صار من بديهيات الحياة حتى نسينا ان هناك شيئا اسمه فن الدفاع عن النفس... ورأيت في اعظم مدن العالم المتحدثة نسبة عظيمة من الامبين والجهلة والضائعين من الشباب الذين هم يستقبلون بواكير الحياة.. ورأيت في أكبر الجادات العالمية المتشردين وجامعي القمائم والبؤس الانساني كتلك التي ترويه كلاسيكيات الروايات في القرن السابق. ورأيت احزمة الفقر والمهانة الانسانية في مدن تناطح الغمام رتاكل الكافيار وكبد الاوز.. رأيت مشاهد الحياة الطاحنة الضاغطة حيث تسود الفردية العمياء والأنانية الكاسحة والوحدة المخيفة ضمن الجموع والعزلة الموحشة ضمن الزحام ونتطلع الى البلد الحلم حيث مازالت تسود الأثرة والتكافل والرحمة والعيش المقبول للجميع.
وزرت بلداناً يكاد مفتشوها أن يسألوك عن ماركة لباسك الداخلي وإبراز تاريخ موثق لكل عملة أو سلعة نسلها ياكل اهلوها قطعانا فى طوابير ويقفون صفوفا الساعات لأي شأن من شئونهم.. رأيت بلدانا يكاد العسكر فيها أن يفتكوا بمواطنيهم مدمرين الاقتصاد والحياة الاجتماعية.. ونتطلع الى البلد الحلم حيث تفعل بما ملكت يمينك ما تشاء.. وتستثمر كما تريد.. وتنقل حلالك كما تود حيث لا نعرف انظمة مالية معقدة ولا ضرائب مجحفة.. وحيث ياتي قبل كل شيء الاحترام العميق لكرامة المواطن وزرع الأنفة واحترام الذات فيه... هذا البلد الحلم الذي يرتفع فيه أولا بيرق الاسلام.. هذا البلد الحلم واحة بالغة الهناء في عالم مضطرب صاخب تعدى شرور الغاب.. هذا البلد الحلم الواقع الجميل في عالم يودع الجمال..
هذا البلد الحلم وطني.. الذى الوم نفسي ان ما يبعث احساسي في أهميته هو يوم ابعد عنه.. أو في اليوم الوطني.. هذا الوطن يجب أن يكون ذاكرتي ذاتها