عهد جديد

سنة النشر : 12/09/1995 الصحيفة : عكاظ

 
لقد طال الحديث والبحث والجدال حول النظام العالمي الجديد الذي كان شعارا مفضلا يردده الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش.. غير أن هذا النظام ولد خديجا مموه المعالم ضبابی الهوية .. متفرع الاغصان بلا جذع راسخ سائب الشر بلا اطار.. وذهب الرئيس ولا نعرف ان كان ذلك النظام قد ذهب معه.. الا انني أؤمن بأن ظروف الحياة بتوجه مصباتها الكبرى في كل الانشطة والميادين وبتحكمات مباشرة من القوى الفاعلة في العالم أحيانا وبارتدادات. وانعكاسات لتيارات فالتة لا تحكمية طبيعية وانسانية وعفوية هجومية ، ودفاعية جماعية وفردية فى معظم الاحيان.. وهذه الحقيقة في رأيي الظروف تصنع الوقائع الجديدة.. ونحن لانصنع الظروف.. لذا يحمل كل عقد من الزمن صورة حياتية تختلف عن سابقاتها قد تكون وليدة متمخضة منها وقد تكون ذاتية النشء. والتشكل.. وانني ارى ان ثلاثة أحداث ذات دلالة وقعت مؤخرا تنبيء عن دخولنا فترة زمنية جديدة تتشكل فيها ايقاعات حياتية في مجالات رئيسة لتكون علامة لزمن آخر.. الحدث الأول: لقد عرفنا هيئة الامم من اواسط الاربعينات واتخذت شكلا طابعيا تقليديا اخذ العالم عنها انطباعا بأنها مقر ضخم في مدينة فخمة تأتي لها مشاكل العالم ولا تخرج.. بل تبقى حبيسة الروتين الاعمى والتردد الدبلوماسي ، وضعف الامكانيات وتيهان القرارات بكثرة اللجان والمجالس والبعثات وقنوات القرار وضغط الامم المهيمنة ، وكواليس السياسة ومتاهات المصالح الظاهرة والخفية والمطرقة الكبرى التي تهد أي قرار جماعي اوشبه جماعي المسماة الفيتو الذي كسر معنى المساواة ومبدأ سيادة العدل بين الامم لتتمتع به الدول العظمى الخمس نعم كانت هناك ادوار لاتنكر لهيئة الامم في أمريكا اللاتينية ، وفي آسيا وفي القارة الافريقية.. ولكنها لم تكن طابعا او تقليدا او دورا متكررا.. بل كانت انجازات كبرى لافراد متميزين أما في الامانة العامة أو في رئاسة الدول ذات التأثير.. وحتى في حرب الخليج شك الكثيرون بأن الطابع المصلحي الاممى واهمية النفط لعبت دورا مؤثرا في خدمة قرار الدفاع عن المنطقة.. ولكن ما حدث مؤخرا عندما قام الناتو ( وهذا هو الحدث) بهجومه على مواقع الصرب في البوسنة تحت تنسيق الامم المتحدة كان بمثابة جرس مضيء يقرع لعهد جديد تلعب فيه العدالة والانصاف- بعيدا عن المصالح المباشرة- الدور الذي تأمله الانسانية من وراء تجمعها في النادي الاممي. ان حاملة الطائرات ثيودور روزفلت استدخل التاريخ كمنطلق ليس فقط للطائرات الهجومية التاريخ كمنطلق ليس فقط للطائرات الهجومية بل كمنطلق لمعنى جديد تخدم فيه القوة الحق الانساني.. فهل يكتب لهذا التاريخ امتداد ؟!! الحدث الثاني ظاهرة كولن باول منذ عرفنا التاريخ الاستعماري وانتشار قوة الرجل الابيض والسمة العنصرية كانت دوما وجها قبيحا ملازما لهذه الهيمنة ، ابتداء من سرقة الزنوج فى السواحل الافريقية الى. اسواق النخاسة والمزارع والمصانع في امريكا اللاتينية، وأمريكا الشمالية، والاصقاع والمستعمرات الاوروبية والملحمة العنصرية وكفاح السود تملأ التاريخ الحديث.. وظاهرة كولن باول الذي اشتهر اسمه في حرب الخليج تستحق لأهميتها وتميزها بأن تكون احدى العلامات الرئيسة لهذا العهد الجديد. ان كولن الاسود البشرة والمنحدر من اصول افريقية عاشت في بورتريكو.. هاجرت عائلته الى الولايات المتحدة حيث برز في المجال العسكري الى ان اصبح ليس من الجنرالات السـ ود النادرين في الجيش الامريكي فقط بل اصغر من يحصل على رتبة. جنرال وهو في الثانية والاربعين من عمره. ان المجتمع الامريكي الذي خاض في القرن الماضي حربا أهلية ضروسا بسبب عبيد الجنوب الأمريكي واغتال لوثر كنغ الزعيم الأسود لتقوم حركة العصيان السوداء في الستينيات من هذا القرن المجتمع الذي حبس السود عبر الأزمنة في جيتوات الفقر والعزل والتحتية والتفرقة والضياع والجريمة. هذا المجتمع هو الذي يعيش الآن ظاهرة الافتتان. يكولن باول حيث اختارته دوائر الرأي العام الشخصية المحبوبة الأولى في الولايات المتحدة.. ان كولن قد يرشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة والاتجاهات تشير أنه يملك اقوى الاحتمالات للنجاح امام المرشحين الرئيسيين الرئيس الحالي كلينتون وبوب دول.. الا ان باول لم يعلن ذلك صراحة.. وقد عهد عن باول ابداؤه للزهد في الوجاهة السياسية ويقول عارفوه أنه في الحقيقة رجل متأجج الطموح وعينه دوما الى المناصب الكبرى.. ويتوقع المراقبون ان مذكراته الرحلة الأمريكية سيعصف بكل معدلات. البيع في كل منافذ ومكتبات الولايات المتحدة. والذي يعتبره هؤلاء المراقبون: رسالته الانتخابية التي وضع فيها مناهجه ورؤياه لحكم جديد للولايات المتحدة ، هذا الكتاب الذي تجنب فيه مواضيع الخلاف الكبرى وركز فيه على الفضائل والقيم وإصلاح السياسة والاقتصاد اعد بتعابير دبلوماسية لغاية كبرى.. ان الرأي العام الامريكي مفتون في باول الشخصية السوداء ويراه إلهاما جديدا للحكم المدني المزود بالبطولة والانضباط العسكري بعد ايزنهاور الحدث الثالث: التغييرات والتحولات العملاقة التي طرأت على النظام النقدى العالمي الذى يعانى من شروخ واسعة في أعمدته الاساسية وشواهده الذي بات الدينا صورات الحالية والتي بدأ مسلسلها منذ ثلاث سنوات ولم تنته مؤخرا في اندماج بنكي أمريكا العملاقين تشيس منهاتن وكيمكال بانك.. وأفول الشمس المشرقة للمصارف اليابانية ذات الثروة الخرافية وتعرض بنك كيزو الياباني للانهيار مع بنوك اخرى.. أن النظام المالي العالمي بدأ مرحلة تكوين جديدة لم تنته فصولها بعد.