البروتوكولات .. وثيقة الشر (الحلقة الأولى)

سنة النشر : 20/06/1995 الصحيفة : عكاظ

 
في بدايات هذا القرن بدأ عهد الاساطير الجديدة والتي كانت تقلب رؤى سكان الكوكب وبالذات الإجزاء المتحضرة التي تصلها وسائل الاعلام المتاحة في ذلك الوقت ، ولأن تلك الوسائل في معظمها المقروءة والمسموعة فقد كانت الخيالات العامة والرؤى الجماعية تلك تلعب دورا عميقا في اضفاء اجواء الغموض والطلاسم واختلاط الوقائع مع احداث فوق الواقع. ولقد كانت الفترة انتقالية في اجمالها من النواحي العلمية والاستكشافية والسياسية والاجتماعية والفكرية.. لذا كان لكل حدث جديد دوي يتردد في كل الاصقاع ليأخذ بعد الحقيقة المغلفة بهالة الاساطير وتهاويم الخيال.. فالسفر واكتشاف الأدغال الافريقية ولد اسطورة طرزان ابن الغاب واختلطت الاسطورة بالواقع بأذهان الناس. الكثير لم يريدوه شخصية خيالية ففي بريطانيا العظمى في اواسط العشرينيات احتفظ بعضهم بالشجرة العائلية النبيلة التي ينتمي إليها أهل طرزان الذين هوجم كوخهم في الغابة لينشا ابنهم في احضان القرود.. ولقد شاعت كالحقيقة المطلقة حادثة العلماء الذين اكتشفوا حجر رشيد وفتحوا أمام العالم اجمع اسرار وغموض الملوك الفراعنة العظام ولقد تساقطوا بحوادث الواحد بعد الآخر وقيل وقتها انها لعنة الفراعنة.. الأرواح العظيمة الحانقة على تعكير هدوئها الأزلي عبر القرون تنتقم لمن أفسد عليها سكون الخلود.. وعاشت أوروبا وأمريكا عقدا كاملا على خرافات الفراعنة وسحرهم ولعنتهم الكبرى أكثر مما شغلت بنواحي الحضارة الفرعونية من جوانبها العلمية والتاريخية.. كان العصر عصر تغيير كبير. وانتقال البشرية برمتها من حقبة الى عقبات عالم جديد زاخم فوار.. الصناعة الضخمة في الشمال الأوروبي التوسعات والفتوحات الأميريالية عبر القارات ووراء البحار الفخامة الفكرية للمذاهب الاقتصادية والسياسية والأدبية كالاشتراكية والغابية ، والبلشفية والنازية والسوريالية والوجودية. وأعيد نحت العالم من جديد.. وبدأ السؤال في المعاقل الفكرية ونوادي الأفكار الفائقة من وراء كل هذا ؟.. أنه الجري وراء الأساطير.. الوقائع بكل زخمها وجديدها وغريبها لم يكن كافيا... الاسطورة.. الوهم.. لابد من وحوش من دهاليز الخيال مصاصي الدماء.. دراكيولا .. قوة.. اخطبوطية تدير العالم من خواصره.. من وراء كل هذا.. كان هذا هو السؤال.
 
لنعد عقودا من الزمن إلى نهاية العقد الثاني من هذا القرن.. كان التاريخ امواجا بركانية. تمور وتتلظى.. العالم لتوه خارج من حرب كونية شريرة حصدت كمناجل الموت العطشي. ملايين الانفس وقوضت المدنية في ماهياتها ومعانيها، وأعلن العالم الغربي العصيان على نفسه.. وعلى حضارته وعلى ديانته ومبادئه وانفلت من مبادئه وانقلب عن بديهياته، ومن القرابين التي سفحت كانت الحياة الليبرالية الآرية واللاتينية التي استقرت في أنظمة الحكم الدستورية والقيصرية فرحلت الى الأبد المهابة الفكتورية في بريطانيا وأن بقى عرس وندسور رمزا للأمة البريطانية ومستعمراتها وتفككت الامبراطورية الجرمانية بقوتها وجبروتها الكلاسيكي وثارت المذاهب الفكرية والفنية الغربية في فرنسا فحكمها فعلا الفلاسفة المتسكعون والفنانون البوهيميون وصرخ احدهم بأن يجعل اللوفر رمز الانساقة الكلاسيكية الفرنسية اكبر مقر القمامة في باريس.. إلا أن الانفجار العظيم كان في اطراف. القارة الأوروبية في تخومها الشرقية حيث أرض القياصرة المعتدة بمساحات لا نهائية فوق القارة الآسيوية الكبرى. فقد أصبح الفلاسفة بعد ثورة كالرعود دولة على أطلال ودماء القياصرة وفي العام ۱۹۱۷ ميلادي بدأت عهود جديدة.. بدت للمفاهيم الامبريالية والليبرانية شيئا كالكابوس الجاثم على القلوب رعبا يلاحقهم داخل جلودهم.. وبدا للدهماء و دوائر الفعلة والعمال وبسطاء الايدلوجيا شيئا كالفراديس الموعودة.. عندها فقط تذكر العالم أن هذا السيناريو الفائض بالاحداث الدرامية المدمرة لم يكن جديدا.. لقد عرفوه من قبل سمعوا عنه.. وبل قرأوا عنه.. في كتاب شرير.. شرير جدا ظهر كنصل براق يقطر دما في عام ١٩٠١ ميلادية واختفى بغموض وبشكل شبه قاطع في عام ١٩٠٥ م.. وجرى العالم الى نسخته الوحيدة المودعة في المتحف البريطاني.. الثورة البلشفية اعادت للاذهان ماكان في ذلك الكتاب الذي كان يخطط ويتنبأ لهذه الثورة تقريبا كما حصلت... وبدأت الاسطورة حوله وعنه وضاع الوهم مع الحقيقة وصار حديث العالم وشغله الشاغل هو الكتاب الغامض بعنوانه الأكثر غموضا وبأسراره التي انتشرت في العالم وادارت الرؤوس وأضاعت الكثير من الصواب. والهبت كل جوانح الرعب والترقب والخيال كان الكتاب.. ومازال.. «بروتوكولات حكماء صهيون».
 
أن المناسبة التي دعت إلى الحديث عن هذا الكتاب الشائن الذكر هو الحملة الضارية التي اشتعلت مجددا (ولطالما ابقى اليهود التهم الدعائية الجبارة في حالات لياقة وتوثب) لمسح كل العوالق التاريخية والدينية للجنس اليهودي التي نبذتهم في الذهن العالمي. ومنها محاولة مجلة واسعة الانتشار رصينة الفكر وهي الريدرز دايجست في مقال لها عن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون لاقناع قرائها الذين يعدون بالملايين بأن الكتاب لا يعدو عن كونه خرافة الصقت باليهود امعانا في جعلهم ( الضحايا وكبش الفداء والمقال يحمل العنوان هذه الكذبة لن تموت... وادعو لكم بطول العمر لنخوض في المقالة القادمة عن غوامض وحقائق وآراء حول هذا الكتاب... الذي لم يكن بروتوكولا كما يقول عنوانه بل نفئات من الحقد والازدراء للبشر كل البشر.
 
والمهم: أن الرجال العظام يختفون من أماكنهم وتبقى شموسهم تطل علينا من كل مكان. فحينما يبتعدون يضيئون!