فرنان بروديل .. واجهة جديدة للتاريخ

سنة النشر : 06/06/1995 الصحيفة : عكاظ


لقد انتهيت مؤخرا من قراءة سفر ضخم بعنوان "الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية" وهذا الكتاب الفائق الدسامة بصفحاته الثمانمائة من القطع الكبير والحرف الصغير ماهو إلا الجزء الأول من ثلاثة مجلدات لهذا الكتاب الموسوعي التاريخي التفصيلي ولقد اعجبت وبانبهار باسلوب الكاتب وبثقافته الانيسكو لو بيدية واتساع أشعاع معرفته في خفايا ودقائق وجوانب الحياة العادية في المجتمعات البشرية بحضاراتها المختلفة وهو يعطيك الارتياح العميق بمصداقية العالم ودقة وانصاف وتجرد المؤرخ العلمي خصوصا عندما يتطرق للحضارات الشرقية واثرها على العالم وبالذات فيما يكون مرتبطاً أو نابعاً من الحضارة الاسلامية..

والمؤلف هو الفرنسي فرنان بروديل من منطقة الميز في شمال شرق فرنسا ، وتوفي في عام ١٩٧٥ م ، اعتقله الألمان في الحرب الثانية حيث وضع في أسره كامل رسالته للدكتوراه والتي كانت عملا موسوعياً شاقا آخر عكف فيها على دراسة حوض البحر المتوسط وعوالمه وحضارته وفلسفته ووضع هو تصوراته المفصلة لأسس فلسفته ومناهجه وخططه في دراسة التاريخ. وما يشد في هذا الكاتب موضوعيته الواضحة وأنه سمح لنفسه فيما يسمى بالذاتية المشروعة عندما يؤرخ عن شيء يتعلق بالهوية الفرنسية او الشخصية الفرنسية كما في مصنفه "هوية فرنسا .. الناس والاشياء" وهو كما يقول الدكتور مصطفى ماهر في مقدمة ترجمته لكتاب الحضارة العادية لبروديل، قد تحمص فيه لفرنسا حماسا مشروعا، وأن اعتذر عنه اعتذارا بلاغياء فهو شديد الحرص على تأكيد: دور فرنسا الحضاري...... ولكنك أن قرأت لبرودل كهيئة فكرية شاملة وملكة تاريخية متكاملة ، تجد أنه يكاد ان يضع التاريخ على طاولة الاختبار ووسط انابيب المعامل لدقته العلمية المضنية التي ترتد مشقتها حتى على القارىء العادي لانك کقارىء- يجب أن تكون متتبعاً معه لدقائقه التفصيلية ورحالاته التدليلية وشهاداته الموثوقة المستقاة من كل مكان ومن اشخاص في مختلف المواقع واختلاف الطبقات.

إن كتاب الحضارة المادية بجعلك تقرأ تاريخا لم تقرأه قط.. بل أحداثا صارت في التاريخ لم تكن حتى لتخطر على ذهنك.. لأننا عندما تتحدث عن التاريخ فإننا نغطي اسقف الاحداث الكبرى باجمالاتها التي تعتقد أنها حركت العالم ودفعت النهر الحضاري العظيم بیشماراح بروديل للتفسير في كتابه بأن التاريخ من منظوره الدراسي يأخذ نمطا هرميا وهو هنا يدرس ما يجري في الحضارات بتنوعاتها وعبر تاريخها الموثق في قواعدها العريضة السفلى...

وهذا أمر مدهش..... كيف؟

التاريخ الاف.. بل ملايين تجری الاحداث الصغيرة لملايين من الافراد الهامشيين في المجتمعات العريضة في حضارات مختلفة.. ولكن من يهتم ؟ ولماذا ؟ أنه يرى أن مجموع الأحداث الصغيرة هذه هي التي تتراكم عبر الزمن والممارسات الجماعية لتكون صيغة حضارية ، أو صفة قومية ، أو حدثا تاريخيا ضخما.. انها تبدأ من الاشياء والممارسات والاندفاعات الفردية والصغيرة كمنشأ جزئي لبناء ضخم.. انه تاريخ صغير كما يسميه.. وهي مثل تلك التي يعنيها جورج جور فيتش العالم الاجتماعي عندما كان يفسر ا أسماه بعلم الاجتماع الصغير) أو ميكروسوسيولوجي ، وهي تلك الوقائع الصغيرة التي تتكرر الى مالانهاية في الواقع.. وهي حقائق صارت وحدثت فهي موجودة » كحقائق متواترة ولكنها تجتاز طبقات الزمن الكثيفة الصامتة.. وتستمر » وحتى أعطيك صورة وأمثلة عن كيفية قراءة بروديل التاريخ الحضارات من جوانبها المادية في دقائقها الحياتية فإنه عن مختلف الحضارات كان يسجل أحداث الأفراد ، وطريقة اللبس « ابتداء من تصفيف شعر حتى الياقات والاحذية وكيف ينصرف الافراد في حياتهم اليومية وعن الصرعات والموضة وادوات الحياة العادية في المنزل والشارع والمزرعة والنهر والبحر وتكلم عن وسائل النقل وتطورها.. وطريقة الزراعة ابتداء من المزارع الفرد ورش القمح في هولندا، وغرس الأرز في مستنقعات الفلبين ، وجاموسة الساقية في مصر موثقة عن مؤرخي- حملة غزو نابليون لمصر في بدايات القرن التاسع عشر ، ثم دخلك بتاريخ المدن.. ولكن.. بتفصيل شوارعها ، وقنواتها ونمط بيوتها ومدى اتساعها وطرقها ومسالكها.. وكأنك في وسطها.. هكذا تحدث عن بكين عاصمة الأباطرة الصينيين ، وهكذا تحدث عن لندن قلب التجارة المادية منذ القرن السابع عشر.. وعن جادات وأبراج وحركة الحياة في باريس... هذه التتابعات والتفصيلات تقود.. كما يقول المؤلف إلى (الحقب الطوال) لأنها ترسم الخطوط البعيدة وترسم الأفق لكل المشاهد التي غابت عنا.. ولأوضح لك أكثر.. فها هو بروديل يستشهد برأي رجل انجليزي عادي بشهادة موثقة ومسجلة عن رحلة قام بها الى الصين بالقرن الثاني عشر في عام ( ۱۷۹۳ م) ويسجل بعاديته مشاهداته العادية هناك حيث يقول أن ادواتهم العادية تتسم في تصميمها بشيء. خاص مميز وتحقق نفس الهدف التي تحققه أشباهها في البلاد الاخرى.. فالحذاء الذي نجده في بلاد الدنيا مسطحا يتخذ في الصين شكلا محدبا.. ويشرح انباء من هذا الحجم.. ومن هذا القبيل.. ونصب كل هذه الدقائق التي سماها ترابا او ذرات التاريخ لتبني قلاعا تاريخية شملها السفر الضخم بأبواب عالجت سكان العالم المدن الجيوش الأوبئة غزو الأماكن ومقاومة الثقافات وصراع الحضارات. والزراعة والكماليات ، والعاديات والمسكن والملبس والثروات وبه فصل جميل رائع عن التقنية والتقنيات...

كتاب عندما تقرؤه.. ترى بعداً جديداً للتاريخ لم تره من قبل!!

والمهم.. علمت أن الصديق هو الذي يشرع بوابات النور عندما يصر الظلام على التهام النفس!