الصحافة والتخصص والمتخصصون (2-2)

سنة النشر : 18/04/1995 الصحيفة : عكاظ

 
حيث إننا تناولنا في الحلقة السابقة دور التخصص في الصحافة وما زعمت بأن الصحافة العربية في مجملها مازالت من نوع تلك الصحافة التقليدية التي سمتها نقل الاخبار والمقالات السياسية والأدبية والاجتماعية وان التخصص الذي يعد مادته المتخصصون ليقرأه المهتمون العامون لم يظهر حتى الآن في العالم العرب أو انه في ندرة أما توازي عدم وجوده أو تهدد بقاءه في الأساس وتقع بين يدي- وايديكم بين الحين والآخر بعض الدوريات العربية التي تحاول ان تتخصص في مجال ما ولكنك تجد أنها لاتعدو في كثير من الأحيان أن تكون وسيطا ناقلا للأخبار في دائرة المجال واقتناص الإعلان حيث الهدف دوما الربح التجاري ولا لوم في ذلك انما اللوم أن يكون التكريس كله من اجل ذلك... وقبل الاشارة الى بعض تجاربنا التي لم تأخذ مدى النجاح المبغي لعلنا من الافضل ان تحدد بالمقصود من التخصص الذي يعده متخصصون ليقرأه مهتمون. كل الدوائر الثقافية المهتمة بالسياسة وتقابل الحضارات ومهتمر علماء الانسان وعلم الاجتماع منكبون على نقاش وتفنيد و دراسة ( النظرية) التي تقدم بها استاذ الدراسات السياسية في جامعة هارفرد الامريكية العريقة الدكتور ها تنجتون عما استاها بنظرية صراع الحضارات أو تصادم ائع تسميتها بصدام الحضارات، والحقيقة أن الرجل يتكلم عن صراع حالي من جذور في الماضي إلى نتائج في المستقبل.. والحقيقة الأهم التي يقصدها هذا العالم السياسي هي أثر ما أسماه (تأدبا) حضارات اتية من الشرق القصي والجنوب العاطفي الثائر على الحضارة الإنسانية الحضارات.
 
الصافية أي الحضارة الغربية.. فتجدها نظرية يختلط بها الفكر المخطط مع الفوقية العنصرية الجماعية التي حمل لواءها استعماريو المغامرة الأولى الأوروبيون الى الفاشست والشوفينيين. الوطنيين في شمال وجنوب وغرب أوروبا.. في النهاية يجذر المنظر الشهير بأن الحضارة الصفراء واندفاع المد الاسلامي يهددان صفاء الفكر الحضاري العالمي (!). نعم ليس المجال نقاش النظرية ولقد أوسعت بحثا ونقدا.. انما المقصود أنه تم نشرها في مجلة.. وطبعا هذه المجلة لا تخلط انجازات الفنانة الفلانية مع لاعب الكرة العلاني أو هذا البحث الفكري العميق ( وهو) عميق حتى لو كرهناه مع خبر او ملحة طريفة من هنا.. او هناك.. انها مجلة مكرسة للبحوث الفكرية العلمية وفي مجال متخصص واحد وهو علوم السياسة (وليس السياسة او الايدلوجية) وهي مجلة ( قورين الفيرن الامريكية حيث تخرج من مقالاتها نظرية ما تنجتون فتشغل قارني الخط السياسي في العالم وليس أهل الاكاديميا فقط... وتخرج اجتهادات فاكوياما الاستاذ الجامعي الأمريكي الآخر من اصل ياباني) التي توقف التاريخ الانساني بكل عظمته وتراثه التليد امام عتبات الحائط الرأسمالي كنهاية الخيرة لمسارات التغيير البشرية.. ولا احدثك عن الجلبة والصخب الجدلي الذي دار حول النظرية.. فأنت اعلم بها وما نحن- أنت وأنا الا قلة قليلة لانتلقى هذه الأفكار الكبرى الا عن طريق جريدتنا اليومية حيث يبدو في الصفحة المقابلة لاعب يتلوى أو فنان يبهرنا بتطلعاته أمام الكاميرا.. أو من مجلتنا التي نقرأ فيها اخبار المجتمع وصيحات الأزياء والأطرف من الذي حرر المقال عن هذه النظريات الخطيرة. لا أملك الشجاعة بأن أقول انه قد يكون مثلا المندوب الغني في المجلة... ولقد عشنا في هذه الايام واقع ادارة التجارة العالمية ، والمدير العالمي وظهور علم جديد ليقود الديناصورات الاقتصادية التي تلتف حول رأس وخاصرة واطراف الكرة الارضية.. أن المديرين العالميين- صدقني- لا يستقونها من امهات المراجع المكتبية أو من قاعات المعاهد المتخصصة بل من دورية متخصصة محترمة وهي مجلة (الهارفرد بزنس ريفيو).. وأسأل اين تكتب معظم نظريات ومحاضرات العالم بيتو ديكر!! والقراء هم كل مهتمي الادارة بشكليها العلمي والاحترافي الحقيقيي... واين ظهرت تلك البحوث الدقيقة المستفيضة عن شبع الأمراض العصري. وحامل الرعب والألم والخزي والصوت من اقصى العالم الى اقصاه ، مرض نقص المناعة المكتسب ( الايدز).. قرأنه الأوساط الطبية والدوائر الصحية في الدوريات المتخصصة مثل مجلة نيو انجلاند الطبية.. ثم انظر فقط الى العدد الأخير من المجلة الشهرية ناشيونال جيوغرافيك) وتأمل كيف ستعيد اكتشاف مدينة يخال لك انك تعرفها وهي مدينة بحبي الهندية.. وبالطبع هم لا يتا بطون أذرعة القراء غير ميادين وجادات ومتنزهات المدينة (!). والأمثلة تترى.. وإن كان لا ينبغي أن اتجاهل بأي حال درة المجلات العلمية الثقافية المتنوعة ( الريدرز دايجست ذات المنهاج الرصين والذي طابعه انتقاء انضر زهرة من كل الحقول..
 
ونعود إلى محاولاتنا في هذه المنطقة من العالم فإنني أفرح حين تصلني دوريات متخصصة عربية في البنوك والادارة والزراعة والصيدلة ، ولكنك تلاحظ فورا انها تجاهد للبقاء ولا تحمل مقومات البناء الاساسي التخصصي.. فتتلافى ذلك في النقل الاخباري والترويج المنتجات وتغطية الأحداث وبعضها كما بزغ فجأة.. يتلاشى في مفاجأة أسرع. وخذ ماجرى لجريدة حملت فكرا وهدفا صحيحين مثل ( الاقتصادية) فترى أنها لجات في نهاية المطاف الى التنويع وتخفيف المادة والسعر للترغيب.. بدأت اقتصادية متخصصة وانتهت الآن الى ان تكون الصفة الاقتصادية تهمة لا تنكرها وفضلا لا تدعيه.. اذن فالوجه الآخر للمشكلة ايضا رغبة القطاع الأعظم من القراء حاليا للسهولة والإثارة.
 
لذا فالمهم طبعا أن تبدأ الصحافة المتخصصة لدينا ولكن الأهم أن تواصل وان تستمر!