الصحافة والتخصص والمتخصصون (1-2)

سنة النشر : 11/04/1995 الصحيفة : عكاظ

 
منذ بدء ثورة المعلومات المرئية والمسموعة منذ اكثر من عقدين والنقاش لا يهدا حول بدء النهاية لعصر الصحافة المقروءة ولقد صمدت هذه الصحافة حتى الآن أمام كل التنبؤات التي تكهنت بانقراضها مثلما انقرضت كائنات ماقبل التاريخ لتصبح مطمورات ثقافية أثرية ، أو حفريات ورقية العصور القادمة... بل ان الحقيقة الشاهقة ان الصحافة المقروءة وبالذات في عقدنا الأخير ازدهرت وتوسعت بل ونالت ضجيجا اعلاميا لا لكونها وسيلة لنقل الاخبار فحسب بل مادة للخير في حد ذاتها.. ودخلت عالم الاثارة والغموض والتوسعات الامبراطورية التجارية لأفراد لايرون للطموح حدودا. ورأيي ان الانسان طور عادة صارت مثل الغريزة وهي القراءة على مختلف مستوياته وعلى تنوع أغراضه واهدافه.. وليس غرض هذه المقالة تعداد أسباب وضروريات بقاء الصحافة التقليدية فهذه أوسعت بحثا ونرى ادلتها مشاهد من الواقع.. انما الغرض هنا الاشارة ما أمكن إلى أوجه القصور في الصحافة المحلية والعربية بشكل عام وبالتحديد في أمرين الأول ندرة وضعف الصحافة والدوريات المتخصصة.. والثاني افتقاد الرابط التخصصي والمعرفي للقائمين على الصحافة المتخصصة على ندرتها. فبالنسبة للدوريات المتخصصة في العالم العربي فإن الجسم المعرفي العام يشكو من نقص كبير فيها.. شيء يمكنك أن تطلق عليه أنيميا المعرفة التخصصية... فعندما يريد الطبيب ان يتابع اخبار الطب في العالم (ولا أقول النشرات المهتمة في البحوث والتخصصات) فإنه لن يجد مبتغاه الا عن مجلات تصدر في العالمين الأمريكي أو الأوروبي.. وينسحب هذا القول على المهندس والباحث النفسي ، وعالم الآثار وممتهن الاعمال البنكية والاحترافية المتعددة ولتتجاوز هذه المسالة أيضا لاعتبارات تتطلبها ربما نقلات حضارية ومعرفية وبنية فكرية وبحثية أساسية لم تأخذ تطورها الثابت حتى الآن في عالمنا العربي.. لنتجاوز ذلك الى المجلات والصحافة المتخصصة والتي تقدم المعلومات للعصوم وليس لذوي الاختصاص فقط بحيث تزيد من الحصيلة العلمية والتخصصية العامة في (سلة فكر) القاری بـ بحيث لا تحشى براسه فقط الأدبيات والفكر السياسي والشحن العاطفي كما تفعل صحافتنا منذ أجيال لتخلق او تساهم في صنع وآمل ألا أكون متعدياً بهذا الرأي وتجهيز أفكار وانفعالات تمادت إلى الفورات العاطفية والسياسية التي مر بها الوطن المعر، وبالذات في الخمسينيات ولم تؤد إلا إلى مزيد من التخبطات المنهجية ، وضبابية الرؤية ، وتوهان الدليل.. ونايا عن لوم الذات.. لنأخذ مثالاً لما أثر فيه النهج الصحافي والمعرفي في دولتين بعيدتين عنا وهذا أسلم وهما كوريا الشمالية ، وكوريا الجنوبية.. فلقد كان التاريخ القريب شاهدا لانفصال الأمة الكورية كتوابع للتغيرات السياسية والعقائدية لما بعد الحرب الكونية الثانية.. وراحت الجنوبية مع الحماية الامريكية ووقعت كوريا الشمالية في مخالب الدب الروسي ، لما كان هدف الأمريكان نشر المصالح الرأسمالية ولما كان غرض الروس فرض الأدلجة البروليتارية.. وهذا ايضا ليس مقاماً للحديث عنه هنا وأنما الشاهد ان الجنوبيين صار دأبهم وبوضوح لهدف سافر هو خلق مجتمع علمي.. فترجمت الدوريات التي اقول انها للعموم مثل الدورية الشهيرة ناشيونال جيوغرافيك ، ومجلة ساينس ونيتشر ، والأكاديمية الطبية. والريدرز دایجست.. وأقبل عليها بنهم. عجيب شبيبة كوريا الجنوبية ووزعت مئات آلاف من نسخ هذه المجلات. ورغم توتراتهم وصداماتهم السياسية الا ان الروح العامة والضمير الجماعي كان نحو بناء مجتمع مفتوح وصناعة زاهرة بأعمال الكثير من الصفاء العقلي والمعقول من النازع العاطفي ، وها أنت وأنا نرى الكوريين زاحمون الصفوف الرائدة على هذا الكوكب.. والق نظرة على كوريا الشمالية. التي كرست التها الاعلامية للضجيج العقائدي وتمجيد الرموز الشيوعية الروسية في البداية ثم ذبح كل حصيلة التراث والميثا لتوجيا الكورية العريقة على اعتاب هیکل کیم ایل سونج صاحب لقب « المحبوب من ستين مليون كوري.. والنتيجة اجيال من الضالين عقائديا المتذمرين من كل شيء ومنتهى آمالهم تخطي حدود بلادهم المجيدة الى الدولة المرتدة المنفصلة الرجعية في الجنوب....
 
بالطبع لا أريد أن أسحب هذا المثال على وطننا العربي لاختلاف عوامل الجغرافيا ومناهج المعرفة والأهداف الوطنية لكل بلد ، ولكن هذا نوع من الامثلة الصارخة التي توضح نظرية الفكرة لجلاء الهدف فالصحافة التقليدية ساهمت ايضا بادوار فعالة في نفخ شعلة المقاومات البطولية من ميسلون الى جبال الاطلس.. ولكنها عهود انقضت.. وعالم تغير.. ومعارك اشرفت على العالم من نوع آخر.. أهم أسلحتها المعرفة التخصصية.. لذا وجب على الصحافة العربية العمل على انتهاج السيل لبناء العقل العربي القادم...
 
يتبع في المقال القادم..