الحقيقة السامية؟! (1-2)

سنة النشر : 28/03/1995 الصحيفة : عكاظ

 
أنا من المتابعين للظاهرة الانسانية العقلية الغريبة أو الشاذة والتي تتعلق بالانتماء العوالم الماورائية والغوص في الغيبيات المختلطة مع الخرافة والوهم والارتماء إلى المجهول.. ولم يقدني هذا التتبع الا الى مزيد من الاسئلة التي لا تجد جوابا دقيقا لهذه التركيبة الفكرية البشرية.. وراء هذه الممارسات دوما سعي الانسان منذ البدء إلي ( المقدس) الى حماية كينونته بقوى متناهية الجبروت وهائلة التحكم ، ولكن الأديان السماوية جاءت لتكون المصداقية القاطعة لوضع حد للسعي الانساني لاشباع التساؤلات الغيبية وملء الروح باليقين.. ومع ذلك بدأت حركات التيارات الانسانية الفكرية والدينية والاجتماعية في تغيير ارتدادي شمل الحضارات المعروفة من أقصى الأرض الى اقصاها بنمطه ارتجالي متشابه ومتزامن لم يجرؤ دارسو التاريخ على اعطاء تفسير واضح وشاف له.. فانظر الى الحضارة الاسلامية التي بزغت شمسها فأنارت أرجاء العالم باشعاعات الفطرة السوية والفكر القويم والسببية المعللة الصيرورة الانسان ووجوده. فقامت الحضارة الاسلامية الكبرى التي مازالت مثالا مارات الذاكرة البشرية له شبيهاً الى يومنا هذا.. وهذه الشهادة ليست من عندياتي ، كما أنها ليست مستقاة من مصدر اسلامي بل من مفكرين كبار وثقاة في العالم الغربي والذي يحلو لمنشيء الخطاب السيكولوجي العصري باطلاق صفة ( الآخر) عليهم.. ثم ان امما كبلاد مثل فارس والأندلس وصلت إلى قمم سامقة في الآداب والعلوم ومظاهر الحياة الاجتماعية بعد. ان كانت الامة الفارسية سادرة وراء عبدة النار وحكماء التصوف الوثني ، وحين كانت شبه الجزيرة الأيبيرية قد كانت تعود إلى عصور الكهوف لروح الخرافة الطاغية ، والتناحر البدائي بسبب الأرض تارة ، والمعبد تارة أخرى.. وقبل ضعف الحكم الاسلامي اصبحت بلاد فارس منبعا للعلوم للآتين من وراء النهر ومن الصين ومن الهند ، بل أصبح التحدث بالفارسية أو العربية نوعا نادرا من الوجاهة العقلية.. ونعلم أن طلاب العلم من النمسا وفرنسا والجزيرة الانجليزية كانوا يسيحون اعواما تهلا للعلوم الفكرية والفلسفية من مدارس ومكتبات الجنوب الاندلسي حتى قال. الايطالي ايليو رفايلو الذي راح وراء حلم التفوق العربي عن قرية في الشرق الاندلسي ( معبر طلاب العلم الأوروبيين الى داخل الاندلس) بأنها أي القرية أكثر الأماكن المزدحمة بالعقول العطشى في العالم ثم حدث هذا الشيء الذي لا نملك له تفسيرا. خلط مفكرو فارس الدين بالفلسفة والخرافة والكهانات القديمة ثم بدأ دوران الترس التاريخي الجبار لوهدأت الحضارة الانسانية الكبرى بلجوء صفوة القوم إلى التدليس أو الدعوة الى الخرافة البلهاء.. هل اعطيك مثلا بمذهب الحشاشين الذين يذهبون الى الجنة كل ليلة.. أم أمثالاً بالمذاهب الشاذة ، والممارسات المتطرفة التي عمت فارس وبلاد السند وأواسط آسيا وصارت تتسلل الى الحواضر العربية بغداد ودمشق والبصرة كالمرض العضال الذي صار يهتك بخلايا الفكر المؤمن الرائق وكان من افرازات حقبة مثل هذه عقل جبار تاه في مظان الشك والفلسفة والارجاف واعني رهين المحبسين ( المعري).. وفئة كبيرة من الشعراء والمدعين والمرجفين.. أما ما حدث في الأندلس بعد ان سقط الحكام المسلمون وطردوا منها الى المغرب وشمال افريقيا فهو حركة اخرى من سن ذلك الترس الارتدادي.. ولكن أكثر هولا وأعمق ارتدادا الى سفوح التاريخ ، وتأتيك انباء محاكم التفتيش الى اليوم حيث حرق البشر ومثلت بأجسادهم واعلنت كثلكة ممسوخة بالوثن والاسطورة والبلاهة المتوحشة.. اما في الصين التي انتعشت تخومها بالتجارة والفكر الاسلاميين فإن الصينيين انفسهم سجلوا وبالتمثيل والكتابة والرسم عهود الظلام والعذاب واسترقاق واختاع الروح الانسانية هل زرت الحديقة الصينية بسنغافورة ؟ هل اطلعت على كتاب ( نحن أصل العالم للمؤرخ الصيني البالغ الشوفينيه يانج سونج.. هل تجولت في متحف الامة في تايبه يكفي أن تعلم ان تحذيرا واحدا كتب على مدخل الحديقة... ومقدمة الكتاب. ورواق المتحف يقول ( ممنوع الدخول على الحوامل ، ومرضى القلب والحساسين أصحاب الأعصاب الضعيفة وذلك لأن فيها مشاهد لا يصدقها عقل ولا يصلها خيال لوسائل تعذيب الانسان في تلك الحقبة التي تلت مباشرة انحسار الضوء الاسلامي.. ودارت استان الترس التاريخي العظيم وبدأ كأن العالم يعود للفكر النير من جديد.. فخرج الاوربيون من خرافات الكنيسة إلى التصحيح اللوثري وبدأت في الشرق فورة فكرية للبحث في الاسس والجذور واتباع رؤية سلفية صافية وعمت القارة الهندية استتبابات دينية وعرقية شبت فيها مظاهر حضارية متعددة وسادت الحضارة الإسلامية في اجزائها الوسطى والشمالية.. واستقرت الامة الصينية على تخومها الاسلامية وجنوبها البوذي ، وعمقها الكنفوشي على ان الدورة التي يغيب فيها الحدس البشري بدأت في القرن الثامن عشر وامتدت الى نهايات العقود الوسطى من القرن العشرين بفوراتها الكبرى. ثار الاوروبيون على القيم وانتهى عصر الفكر الكلاسيكي الذي عم أوروبا لقرون لتظهر شطحات المذاهب الرومانسية.. ودعا جان جان روسو رأس الفكر الفرنسي الى العودة إلى الغابات (!).. وظهر الفكر الشيوعي وزرع الوجوديون أوروبا والعالم.. وفاضت النعرة الدينية لدى الهندوس ، وانقلب اليابانيون على الشنتو.. واصبح ماوتس تونج وثنا فوق البشر في الصين وغزا دعاة المذاهب المأفونون أمريكا الشمالية لتبدأ سلسلة من التخطيات في النسيج العقلي والاجتماعي في الولايات المتحدة التي تلحقها دائما بصرعاتها المجتمعات العالمية الاخرى.. وسنتحدث عن هذه الظاهرة في الحلقة القادمة أي عن المذاهب التي استحث الحديث عنها هذه المجموعة الغامضة المسماة بالحقيقة السامية التي اكتشفت مؤخراً في اليابان علنا نتفهم مايدور حولنا في هذا العالم الصاخب ونحمد الله على نعمة عظمى.. نعمة الامتلاء الروحي!