صندوق الهند | المغزى

سنة النشر : 25/10/1994 الصحيفة : عكاظ

 
لقد قلنا ان كل القوى الغريبة قد تسربت داخل جسد دحيم وصارت تدفعه دفعا حثيثا للتفكير بالسفر والخروج من القرية بل والتخطيط لذلك مع سليمان الواصل.. وبات العالم الخارجي سحراً لايقاوم... هناك حياة أخرى تضج وتختلف مليئة بالحركة ومفعمة بالألوان وفائضة بالبشر من كل لون... ومن كل فئة.. ومن كل ملة.. عالم لايمت بصلة لهذه الحياة المستكينة المتكررة ذات الصبغة الواحدة والطبيعة المتكررة والناس الذين يتفقون في كل شي... وعلى كل شيء..
 
خرج دحيم من حفيز الواصل مكبا على وجهه مطرقاً ، سادرا ، ساهما ترميه الأسوقة الضيقة من حي إلى آخر بلا هدف تتنازعه الافكار. وتحته الأمال الأفكار السريعة المتهافتة المؤلمة التي كانها تحمل سياطة تلسع فيها عقل وقلبه.. كيف سيفاتح اهل الدار لهذا الموضوع.. وماذا عساه سيقول لهم ثم لمن سبترك الأرض والفلاحة؟.. ومن سيبقى لهم بعد ذهابه ياوليدي ( دحيم يسترجع قولا تعيده دوما جدته هيلة الله لم يكتب لنا نسلا كثيرا مثل العائلات الاخرى حفظ الله لهم انجالهم.. وأمك عافاها الله أمرأة طيبة ولود ولكن لم تكتب الحياة لأكثر من اثني عشر بطنا إلا لكما.. انت وهيا.. وهيا سياني يوم يأخذها فيه ناس آخرون... ولكني أحمد الله انك ولدنا وستبقى معنا رسياتي يوم تحضر لنا فيه ابنية ناس و آخرين.. وسيمتلىء البيت) ويعصره قلبه عصرا.. هذه أسال الجدة التي يستند اليها طلبا للمعرفة والحكمة.. ولجوءاً من شظافة الحياة... وتجهم الوالد.. ربما كل أمالها فيما تبقى لها من عمر... لطفر الدمعة من عينه.. يمسحها سريعا.. ثم يلجأ الى حوطة » قريبة.. ويستغرق في تحيب ممض... يبدو أن الهواجس المختلطة بالحزن والبكاء والأمل الهته عن الواقع ، ونسي دحيم نفسه وما حوله وهلع هلعا كاد ان يخلع قلبه من وراء أضلعه ، وتنافرت عيناه عندما أحس بيد ثقيلة على رأسه.. يا للمرج العظيم: من هذا الذي رآه في هذا الوضع الذي لا يليق بالرجال.. يا لفضيحته.. وكانه يسمع صبيان القرية يعايرونه بـ ( دحيم ابو دمعة).. على أن الرجل هذا أطل بوجه دحيم وبدأ وجها قاسيا شديد القسمات بأنف. عظيم وجيهة بارزة رأسنان سوداء كأنها القطران... وصنع ابتسامة هائلة من شفتين ضخمتين قائلا لدحيم.. لاعليك يابني.. ما الذي يبكيك لك أن تطمئن الي وانا بإذن الله حافظ لسرك) حالت عينا دحيم على تضاريس ومعالم الرأس الأشعث الكبير.. ورغم جلافته وضخامة تقاطيعه.. وصغر عينيه الغائرتين وكأنهما تطلان من مغارة عميقة.. الا أن نفسه صدقته بل وأحست نوعا من الميل إليه.. وروى له دحيم.. م أحلامه وطموحاته وقلقه الكبير فيما يخص أهله.. ضحك الرجل وبانت نواجذه السوداء واستلقى باسترخاء على جدار الحوطة ، وراح يقلب في جيوب ردائه الواسعه ارايت يا دحيم هؤلاء الرجال ذوي الثياب الفضفاضة والجيوب الواسعة انهم من بدر الشمال. يجولون ( بحلالهم) في صيغ العراق وسهول الشام إلى مشارف الدبدية. ريرون من الاقوام بالا نرى ويمارسون من الاعمال والتجارة مع كل من عبر ومر في تلك الأماكن الواسعة الرحبة.. يختلفون في نظرتنا للاشياء.. وقد يحبون مانكره هذا ما تداعى في ذهن دحيم من كلام والده القايل وهو يرى الثوب الواسع لهذا الرجل الغريب.. والجيوب الواسعة التي راح الرجل يدخل يده في إحداها ليخرج علبة معدنية يعلوها الغبار والبقع السوداء... يفتحها وياتي عجبا.. انه يخرج اعشابا شبيهة بالتبن الجاف ويضعها تحت أنفه الضخم كأنه يستمتع برائحتها ويضعها بعد ذلك على ورقة بيضاء مفرودة. ثم يطويها بعناية ، ويمرر طرفها على لسانه عليها بيده.. ويخرج من جيبه الآخر عود ثقاب يمحكه على جلد أحرش لتشتعل نارا يضعها على الفتيل ليتحول طرقه الى شيء كالجمر الأحمر ، وهاهو يعجه بفمه ويخرج الخانا بغيض الرائحة من منخاريه.. وجزع دخيم ، وتعوذ من الشيطان وقرأ كل الأدعية.. هذا هو التتن الذي يتعاطاه المارقون المنحرفون ضحك الرجل بخبث بائن هذه المرة.. وقال لجات للحوطة لاتتن.. ولجات الى الحوطة أنت لكي تبكي.. وكلاهما لدى الناس خارج هذه الحوطة عملان فاضحان. فلنغض الطرف.. ولنتعارف.. واستدرك الرجل وهو يحك رأسه على الجدار ذي الحجارة الناتئة ( اسمع يا دحيم.. انها الصدف.. والمقادير وهذه دلائل على انك ماض في رحلة طويلة لا يعلم الا الله إلى أين ستنتهي ومتى ستنتهي.. ولكني أكيد من شيء.. وهو ان هذه الرحلة ستبدوها أنت معي.. نعم.. لك أن تتعجب فأنا هو بن سعيفان الذي حدثك عنه سليمان الواصل.. أنا بن سعيفان الجمال جالب الخير والبضائع والأرزاق من الكويت ، والجبيل والقطيف والاحساء وسأصل يوما الى بغداد والشام.. عزم على السفر يادحيم. ولتلتقي عند بيت الواصل النتفق على الرحيل..... وضعق دحيم انه القدر يدفعه دفعا الى مصير مجهول.. ولكن وراءها الرغبة الجارفة.. والاحلام الوثابة.. والآمال الحراقة.. دخل دحيم الدار ونهضت الجدة تتلمس خطاه وتسالة بترتب عميق كأنه يخترق حجب دحيم ( این كنت ياوليدي ماهي عادتك أن تتأخر ؟ لقد تلقت عليك يادحيم يانور عيني.. وحبة قلبي.. لا تتعودها مرة أخرى فقد لعبت بنا الوساوس) وتأتى أم دحيم نافضة يدها من بقايا نخالة الطحين الذى تصفيه بمنخالها كما كل مساء.. وتمسح ما تبقى بشيلتها السوداء او التي كانت سوداء.. وتكرر كلاما في ذات المعني. ونام دحيم تلك الليلة وبجانبه رقدت الحيرة والاحلام السوداء.. وبعد صلاة الفجر بكر في المجيء قبل حضور والده.. وفاتح الجدة ميلة ووالدته بما سيطر على روحه من رغبة السفر حتى فاضت عن روحه.. صرخت..الام.. واسكنتها الجدة هيلة بید كانها حكمة الزمن.. وعمق الرؤية وفهمت بذكائها القلق الذي لم تخمد جذوته رغم السنين.. أن هذا الشيء.. كتب ولابد ان يحصل وأنه هجر قد هوى ولا سبيل إلى جلبه.. وان قوى العالم ودحيم بذاته لن يستطيع لهذه الرغبة صدا.. رفعت عيناها المشعتاة. وقالت قم أجمع حاجياتك.. وخذ النقود التي ادخرتها ليوم كهذا.. واذهب لتودع اختك هيا.. وعند عودتك لاتدخل الدار بل دق الباب وانتظر.. لم يجد دحيم عبد العزيز الثامر في البيت عند اخته.. قبل جبينها الوضاء.. ورفعت عينيها الواسعتين.. ومعا انخرطا فى بكاء عميق.. انتزع نفسه من اخته الوحيدة انتزاعاً ووصاها بالسلام على عبد العزيز وهو يتخيل محياه الجميل.. وانطلق الى داره ووجد كل حاجياته مكومة عند باب الدار وطرق الباب كما أوصته جدته.. ولكن خرجت قامة هائلة وكاد أن يغيب عن الوعى ووالده يسد الباب.. اذن اصبحت رجلا.. أنت في السادسة عشرة الآن.. وستتركنا) دحيم يحاول ان يبتلع الخوف والصدمة ويتابع الوالد مفاجئا دحيم هنيئا لنا.. يارحيم توكل على الله واعتمد عليه واحرص على طاعته. وقد لا تعود ونحن أحياء.. وهذا مكتوب منى لاتفضه الا حين يأتيك خبر موتى) دحيم مبهوتا ولسانه التصق بفمه يضع الوالد يده الكبيرة... على كتف دحيم ثم يقول بمغزى عميق مع السلامة يا عبد الرحمن.. يا عبد الرحمن يا عبد الرحمن.. واغلق الباب في وجهه.
 
أخذ دحيم نفسا عميقا وهو يبتعد وقلبه يهتف شكرا يايمه هيلة.
 
البقية الثلاثاء القادم