صندوق الهند | يوم لا ينسى

سنة النشر : 11/10/1994 الصحيفة : عكاظ

 
كان ذلك اليوم -أو بدايته- يوما غريبا تماما لدحيم ، فقد استيقظ من نومه واشعة الشمس الاسطوانية تمر من خلال الكوى وفتحات السقف تدور فيها ذرات الغبار الحمراء. أما الغرابة فهي أنه منذ اعوام طويلة هذه هي المرة الأولى التي ينهض من فراشه من تلقاء نفسه لقد اعتاد لايام لا تعد على لكن عصاة والده قبل انبلاج الفجر لينهض مجقولا للاغتسال واداء الفجر مع الجماعة. جال دحيم بالدار ولم يجد أحدا.. أدى صلاته وتناول البقشة تلك الرفيقة التي ترتبط به منذ سنوات متجها الى الوادي للفلاحة وعزق الارض واخذته الدروب المتسوية بين البيوت الطينية الى خارج القرية والذهول قد نال منه ومن وعيه.. لايام ( وهيا) مختفية واليوم افتقد اللكزة التي تركت اثرا مستديما في جنبه ، تلك التي تنبهه بابتداء اليوم.. ثم غرابة اختفاء اهل الدار جميعا.. انه لا يعرف لماذا لم يسأل عنهم ، أو حتى ينتظرهم إلى حين قدومهم أنه لا يعرف شيئا. ولا يملك قرارا أو تبديلا لوضع.. أو تغييرا لحالة انه يعرف ان اسلم الأمور خوفا من الزجر والعقاب واثارة غضب الوالد ، وابتعادا عن هذه الهواجس والاسئلة التي لا تجد أجوبة هو الانصراف لعمله اليومي وواجبه الذي يعرفه.. وسيحميه مؤقتا عما لا يعرف.. وهما لا يفهم.. كانت سعفات النخيل تتطاول حدود الشمس الايبة خلف الكثبان وشبح دحيم مع ضوء الأصيل يبتعد وعلى ظهره ( بقشته) شطر القرية.
 
 كان يسير سادرا كما حالته منذ بداية هذا هي. اليوم.. إلى ان كانت عيناه تقفزان من غارتيهما فلقد انتصب شخص شامخ امام مدخل القرية. ولقد ارتجفت كل اطراف دحيم أمام المشهد المذهل.. ودارت كاعصار رملي لاسع داخل نفسه تيارات من الرعب والدهشة.. وكانت مفاجاة صعقت كالوميض كل ادراكاته.. لقد كان الوالد يقامته المتينة وعصاه السوداء الغليظة معترضا. المدخل الملتي عبر الحقول الى القرية.. وصباح التوالد بصوته العبيق ومخارجه القوية.. هاه يا دحيم ماذا عملت بباغت السؤال (دحيم) مجيبا لا تفكير: زين يا بيه زين! يضع الوالد ذراعه الكبير على كتف دحيم (ما الذي يجري؟) ويضم دحيم عاصرًا إياه إلى جانبه ويهمس بإذنه .. الليلة عندنا رجال يا دحيم الله الله بضيافتهم وصب القهوة ويتابع الأب ضاحكًا (انها الضحكة الوحيدة التي عن والده منذ ذلك الحين).. الليلة زواج هيا يا دحيم... مبروك فجأة تدب قوة غريبة داخل دحيم تلم اشتات روعه ريسال ولکن این واين كنتم رجع الوالد الى العميق الآمر
 
اسرع.. أسرع قبل أن يأتي الضيوف واندفع حيم عندما استوقفه الصوت العميق مرة أخرى قائلا إن رغبت اسأل امك هيله وهي تحكي لك... ماه.. يايمة هيلة.. ما الذي حصل ؟ الافكار كالمشاعر تضحك الجدة.. يعينها ذلك البريق الضيق وتضع قبلة من هامة دحيم وتتابع بدون ان وبصوت مامش يختلط مع صوت الفحم على (المنقلة) والماء الحار من دلال القهوة النحاسية تحكى له(اسمع يا وليدي.. ولد الشامي عبد العزيز تقدم الاختك هيا والولد زين.. وراعي صلاة ، وصاحب هولتوه راجع من الشام واحضر خيرا وان شاء الله بعد ما ( يأخذ) أختك هيا مرة أخرى إلى الشام... والبنية صغيرة وأخذناها لبيت خالتك لتمهد لها مع ( بنياتها) الزواج والحياة القادمة: مع رجل.. ولتقوم على تجهيزها وتمشيطها. وتزيينها) لليلة الزواج واليوم قبل الفجر ذهبنا لرؤيتها وتهدي ، روعها ، واحضارها للمنزل) عندما أطل دحيم على هيا.. كانت مكية على حسن والدتها وتجهش بيكاء متواصل ونم لا ينقطع. واشارت له الوالدة بيدها وبحركات ان ابتعد وبسرعة وشـ بصر قلبه عصراً على حال أخته.. ولم ينس طيلة حياته ذلك الدعاء الحار بعد صلاة العشاء الذي انطلق من كل- كيانه وتجمعات شعوره لاخته هيا..
 
تدفق الضيوف بالهمهمات والضحكات وجمل التهنئة.. وعقد في المجلس قران هيا على عبد العزيز الشامي يايمه هيله عزيز صار الآن عبد العزيز.. ودحيم مازال ( دحيم)).. بارك دحيم العبد العزيز ووجد وجها مضيئا قسيما من ذلك النوع الذي ينشر الاطمئنان ويوحي بالسكينة والطيبة والثقة لقد غيرته الايام والتجارب. وهاهو الآن شخصية رجل ثابتة وبوجه وضاء. وطبيعة خلابة ( لقد أحس أن استجابة الدعاء كانت اسرع مما توقع.. وأشرقت في وجه عبد العزيز ابتسامة رائعة ستبقى في ذاكرته طيلة حياته!) لم يتمالك نفسه كانت قوى لاتصد.. ولم تنفع تمنعات احكة من و و تعلم الاندفاع التي روايته لأخته.. رفع راسها. نسكب بوجوم والتفت عيناه بعينيها الواسعتين. وقال لها.. مبروك ( ياهيا ؛ حان لك أن تطمئني انت في بدامنة. وتذكري أن الله معك ثم نحن وأنا أعدك بأن أكون معك مهما تباعد المكان أو نأى الزمان.. واطرقت هيا هامسة وخجل العالم يكتفها.. هل رايته ؟) وابتسم دحيم كل المعاني.. ولقد أحس من داخل ريقا لمع في عيون هيا يوحي باطمئنان من مجهول. ويستعادة كامنة بعد قلق ظاه وانزاحت در دحيم كل رياح الهموم التي نسعت روحه منذا وفي الصباح ادخل الاقطار على ( المعاريس)... وكان دحيم مصاحبا لوالده وأمه هيله. ووالدته.. وكان ( عبدالعزيز رهيا جالسين على سجادة جديدة اخاذه بكامل زينتهما.. يا الله ما اليقهما لبعضهما انهما درتان من البشر بسكينتهما وحسنهما)... وتتصاعد روائح البخور والمسك في الغرفة التي عرفها طيلة حياته وانقلبت اليوم من حال الى حال.. وبينما كان الحديث يدور حميما بين من في الغرفة.. اذا بصوت « نحنحة عظيمة. لقد اتي أبو عبد العزيز مع زوجته ومعهما هدايا ( الصباحة) وضعت السيدات العباءات عليهن وارتكن في زاوية قصية في الغرفة.. ومع ام عبد العزيز صندوق منقوش صغير مليء بالحلي قدمته إلى العروس.. أما الاب فقد كان يحمل مع احد اتباعه صندوقا عظيما موشی بدوائر كالذهب تغطي خشبه الاسود اللامع وقال الاب معبرا عن فرحة كبيرة: لقد وصيت ابوسليمان الواصل على هذا الصندوق منذ فترة. وتم احضاره من الكويت لاجلكما... وشمع بجيم تمتمات امه هيله ما أروع صندوق الهند هذا.... اما هو فقد وجد الصندوق.. والهند. تأثيرا سعره.. واخذ بمجامع نفسه.. وطار مطلقا مع اخياله.. وكانه يعلم أن صندوق الهند سيغير من حياته إلى الابد.