الحلقة الأولى: صفحة متجمّدة
سنة النشر : 04/10/1994
الصحيفة : عكاظ
.. كان الوقت هجيرا.. والرياح الجافة تكاد تمتص كل المياه من جلده. نظر إلى بده المعروفة وهاله انه بری اظافره لأول مرة... أو ربما نسي كيف هي منذ زمن طويل.. طويل جداً.. حيث الزمن لايقاس أو يمر الحر.. البرد.. النهوب.. المطر.. القحط.. ركز النظر مرة أخرى الى شكل يده المعروقة وأطرافها اليابسة وتلك الاظافر العجيبة التي اختلطت الوانها باديم بشرته.. وبلون الأرض.. والبرسيم.. والحنطة.. ينظر وهو في الوادي الممتد الى الأفق القريب حيث ينتهي خط الحقول وهامات النخيل وخلفها كلبان لانهائية من الرمال التي لا تمسك أطرافها كما تحكي جدته هيلة إلا مياه هائلة تجول فيها الحيتان وتغرق فيها المراكب.. ويدير وجهه الذي لوحته الشمس المتجمرة الى الجهة الأخرى.. الى قريته ببيوتها الطينية يشم رائحة التراب في اسوقتها الضيقة.. يعرفها كما يعرف كف يده.. بل يعرفها أكثر.. فلقد بوغت اليوم بشكل يده.. وبعروقها.. وبلون أظافره. ( هذا كل شيء) قالها لنفسه.. حتى هذا الاسم مله وارقه.. إنه يعرف مجتمع قريته ، يكيله بالضالة وقلة الحجم.. متى يصير عبدالرحمن.. أو «ابو فلان» ليخرج من قضبان الاستخدام.. والهوان..
مسح دحيم العرق من جبهته وهو يفلح الأرض بالرتابة التي عرفها منذ طفولته ولا يكاد يرى وضعا آخر من الممكن ان ينتهي اليه.. إن الزمن هنا كتاب مفتوح كبير ومنبسط، وتحتاج زمنا آخر لتقلب احدى صفحاته.. ثم كيف تنتقل حالته الى جالة أخرى.. لقد رأى أباه يفلح الأرض منذ وعت عيناه ما تبصره.. ولقد سمع من أمه وجدته أن جده كان في الفلاحة.. أرض ثابتة لا تذهب ولا تجيء لا تتحول ولا نتغير.. مثلهم تماماً لاياتون.. ولا يذهبون.. کتاب مفتوح تجمدت صفحاته الى مالا يعلم... وكانت القدرة أن تتجمد صفحة كتابه على واقعه المضني.. المجهد.. مع الغبار والبقرة. والزرع.. وتلقيح النخل.. اذن فهي حالة استقرار لاحالة انتقال.. أو في وضع مكاني.. لاحالة زمنية.. والا كيف ينظر اليوم بانبهات الى لون أظافره التي استحالت الى لون حربائي يتداخل مع لون الطين والزرع والتشققات الكهفية في باطن يده.. لقد عرج صباح اليوم على « حفيز الواصل » للاتفاق على مقايضة بعض المحصول ببعض الروبيات أو الفرانسيات. وبعض الضروريات التي تأتي من أمكنة قصية بعد الكثبان العظيمة وخلف المياه والبحار العراق الشام.. يعبي.. فلسطين.. امكنة في اقصى العالم.. أو هي العالم حقا.
.. في « حفيز الواصل » حين رأى تلك اليد البيضاء الهشة اللامعة المشدودة بنعومة كالأبريسم و صعقت نظره تلك الأظافر المقوسة اللامعة الملمومة بلونها اللطيف الذي يشبه الحناء الباهت نقد تامل كثيراً يد « سليمان ابن الواصل وهو يجردها مجمعاً أوراقا فيها كتابات و خطوط.. وغرق في هيئة أصابعه الدقيقة تمسك القلم وتلعب به على الورق. انه الكتاب ذلك الذي تتجمد صفحاته ولا تنقلب الى صفحات أخرى.. لقد تجمدت صفحة الكتاب عليه وهو يفلح باليد المعروفة التي تشبه تشققات الارض وعلى سليمان الواصل بذلك المحل النفه الظليل وبتلك الليد الصقيلة التي تشبه الورق الذي أجرى عليها القلم.. كانت الشمس تغطس وراء الكثبان.. وعندما تصل سعفات النخيل في الأفق الى خاصرة القرص الملتهب فانه يعرف بأن أوان العودة الى الدار قد أزف.. يجمع حاجياته البسيطة ، ويضع أغراضه المتناثرة في البقشة » وينكس الى بينه والغريب انه في تلك الامسية مضى يتامل یده ويرنو اليها طويلاً. كانه لم يرها من قبل.. أو كانها هو.. هو ذاته وبيئته.. وحاله وكل كياته... وكانت الوالدة تتذمر من وضعه الجديد.. ونحطه على التعوذ من ابليس الرجيم.. وعيناها زائفتان باستفسار مخيف اللهم أحمد من الوسواس الخناس... تاتي الجدة العجوز وتضع يدها المليئة بالخطوط.. خطوط العمر والزمن على رأس دحيم ، وتبدأ بالنفث على راسه وتقرأ عليه ماتيسر لها من الذكر الحكيم.. ثم تسأله ترمقه بعينيها الفائرتين وبهما وميض أقل من الحكمة وسبر الدخائل ، ما الذي بلاك.. ياوليدي دحيم.. يرفع دحيم وجهه المبخوت ويقول: یامه هيلة سليمان يده بيضاء و أظافره حمراء.. ويلعب بالقلم... تضحك العجوز وفي داخلها قلق عميق.. البياض ليس للرجال | ياوليدي.. ويرد دحيم والتعابيس المدهوشة ملء وجهه.. والكتابة يايمه.. الحريم أيضاً ؟ لقد رأى دحيم أيضا شيئا عجبا في «حفيز الواصل» ربما عجب ساراة.. اليوم أو كل يوم.. لقد أطل (أبو سليمان) برأسه المتفجر صحة وبابتسامته العريضة.. وبالفاظه العذبة هل الألفاظ العذبة للحريم أيضا يايمه هيلة ؟!... والقى السلام على دحيم.. ثم انه مضى بحديث باسم.. وكانه.. وياللعجب الشديد.. حديث الند الند.. مع ابنه سليمان.. ففي دارهم الحديث لا يدور الا مع أمه وجدته واختة هيا بعيداً عن الوالد الذي لم يجر معه حديثاً ذا شأن منذ ذاكرته.. الاتصال الغالب كان الأمر والنهر.. والزجر.. والحديث الذي لا ينتهي عن قصص الأولين... وبالغالب لايوجه حديثه لدحيم بالذات وانما كانه للجميع.. أمام وجار القهوة بعد العشاء..
في الدار يدور لغط وهمس وهمهمة.. وتبدأ هذه الأحداث الشاذة عندما تلتقي رؤوس الثلاثة أبو دحيم ، وام دحيم.. والجدة هيئة.. وهناك شيء آخر يكاد يثير كل كوا من الفضول لدى دحيم.. فلقد مضت أيام واخته هيا.. مختفية.. اختفت كما تخفي الجدة هيلسة أقراص الكليجا وزكيبة الببيس... صحيح أن الترابط بينه وبين هيا يضعف تواصله انه صار من عالم الرجال وهي لكونها فتاة بدات بالنضوج فلقد أعلنت على نفسها العزلة « أم انتم أمليتم عليها ذلك يايمه ؟ له العزلة حتى من النساء الكبيرات.. انها فقط تلك الأويقات الضئيلة التي تتراءى مع صويحباتها واترابها عبر الكوي والسلالم المتداخلة بين دور الجيران این اختفت..هيا.. وأين أخفيت.. والأهم لماذا ؟.. وماهذا الذي يجرى بين الرؤوس المتلاصقة.. والهمهمة العجيبة.. يكاد دحيم أن يضج من الحيرة والتساؤل. وتضلله أكثر تلك الاجابات التي كالاحاجي والالغاز من والدته وجدته.. أما سؤال الوالد فدونه الخوف الكبير... بدأ الزمن تكون له حدود امام دحيم والأماكن صارت لها مسافات.. بتلك الاحداث تجري في الدار.. ولكن مازالت جائمة الحبرة الثقيلة على احاسيسه ومازالت صفحة الكتاب متجمدة كما كانت في الفلاحة لديه.. وفي المتجر لدى سليمان إلى أن جاء يوم.