الذرّة الهائمة ..

سنة النشر : 21/06/1994 الصحيفة : عكاظ

 
.. لقد قرأت في جريدة ( اليوم) عن الاحداث التي مرت بها عائلة سعودية ومعهم بعض النساء حين ضلوا الطريق في صحراء مترامية.. ولقد ذكرت الجريدة على لسان كاتب الحدث عن الأهوال التي عاناها التائهون حتى تم العثور عليهم. ومع تمنياتي لهم وفرحي بنجاتهم فإن ذلك أثار في نفسي أمرين. الأمر الأول: لقد روى رب الاسرة الظروف الصعبة التي عاشها في اليومين اللذين كاد فيهما ان يفقد الأمل بالعثور عليه. ولكنها رويت كما تصب في آذاننا الاخبار حيث تجد التفاعل الآني ويقل الانفعال المتواصل.. تماما كما نسمع الأنباء عن الكوارث الطبيعية. وعن المآسي الانسانية. ولكن دون الدخول في دراما الانسان فردا او مجموعة بدون الابحار داخل النفس الانسانية للمس ولهم انقباضات الروع وجزعات الارتياع واختلاط خفقات الامل مع منازعات البأس، ونداءات الألم والهوس وزوغان العقل مع ركائز الايمان واستبشار المدد الإلهي واليقين بالرعاية العظمى التي لا تغفل ولا تغيب.. في قصة اصحابنا نجد قمة من قمم الدراما الانسانية المشحونة بالخوف على الذات.. والهلع على الفلذات... وتطاير النفس شعاعا من ترقب الموت الذي يزحف يطبنا بقطع الاحشاء عطشاء وهلعاً وهلوسة.. ثم انك تجد تلك المفاجات المشحونة التي تطير بتيار الترقب والهول الى الصدمات الكبرى التي برع فيها مخرج الرعب المقاجى الفريد هيتشكوك... ولو قام المذكور من قبره لجرى لا يلوي الى أحد ابطال قصتنا ووقع معه عقدا لفيلم واعد عظيم أن ما رأه ابطال القصة والظروف الغريبة التي تتابعت لتضفي طبعات من الترصد فوق طبقات من الهلع وهم يوغلون تيها في البراري الممتدة بلا نهايات لا تحمل ظروف الحياة ، ولا وعدا في البقاء. والظروف التي جعلته يأخذ طفلتيه مع زوجته.. بل وزميلات زوجته وتصاعد الدراما الخطير عند الآلام الممضة عطشا ويأسنا عندما لاح ليطل القصة.. أن يصدم جمــلا ليعيش عليه.. أو يرطم فلذة احشائه بآلة حادة حتى تغيب عن الوعي ليحميها من ويلات النزع وأهوال ترقب الموت.. وانتظر عند قفلة الاحداث بالصدمة النهائية عندما انفجرت عجلة السيارة. وزيادة في التشويق الموقف لدقة القلب لا مرة.. بل مرتين.. كل ذلك لو كان سيناريوهات لمخرج رعب في معامل هوليوود الضج النقاد بأنه حبك دراما الروع.. ولكنه زاد جرعات التهويمات. ولم نعت اللجان الفيدرالية ومنظمات المرأة والطفولة.. والهيئات الطبية من حضور هذا الفيلم.
 
لو وجد كاتب عميق التأثر ، وصاعق التأثير ، وقدير برسم الكلمات والاسلوب التي تصرخ مع الالم وتضل مع التيه وتجمع معاناة الانسان في شواهق توترها.. ورسم السعادة المغموسة بالدهشة وحدود الجنون عند النجاة ( حيث كانت المفاجات!!) وتلك قصة اقوى من أن تروى في عجالة.. وأتركها لقاص مطوع وافر الادوات ليمزج الحدث ، مع السيكولوجيا ، وفوق ذلك الرعاية العلوية التي لا تنام...
 
أما الأمر الثاني:
 
عندما انتشرت الفلسفة الوضعية والتفسير المادي وفلسفة انعكاساته على المدركات العقلية مع بدء ثورة أوروبا الصناعية كردة على الحتمية الكنسية والتصرف الرعوي والابوي السلطوي لرجال اللاهوت المسيحيين.. بدأ كثير من المفكرين والادباء اصحاب التقوى والايمان العميق (كما يطلق عليهم مثل ت. اس. اليوت وخصوصا فيما كتبه بعد الثلاثينيات من هذا القرن) في كتابة المقالات والقصص والروايات التي تثبت ضياع الانسان في التيه الكوني الهائل وانسه لا يعدو عن كونه ذرة هائمة لا تعنى شيئا ولا تفيد شيئا ولا تقدر على شيء بدون القوة الإلهية وراء السماء وحول الكون والمتصرفة في كل الاشياء عند ذلك الايمان تتكون لدى هذه الذرة الهائمة ( الإنسان) ابعاد عميقة.. موغلة في العمق تعني كينونته وتبني عظمته وترسم طريقا ازليا لأهداف ابدية. وأعظم هذه القصص تلك التي لا يحضرني اسم مؤلفها.. ولن انسى ما حييت أحداثها التي كتمت انفاسي المراهقة ( حينها!!) من الغلاف الى الغلاف يتحدث فيها المؤلف عن فتى وسيم لعوب كافر بالقيم مغرق بالعادية غير أبه للروحانيات ، والجماليات الفوق نفسية وتقوده الظروف الى رحلة استكشافية في غابات الجزر الملاوية ويتيه عن فرقته أياماً.. وأيـامـا.. استخدم في بدايتها عقله وأدواته العلمية ولم تفده شيئا... وثابر على تحديه لشعور الخوف واللجوء الى قوة أعلى.. ولكن مع ظلام الغابات وتهاويم الوحوش وهلوسات الوحدة واهتراء الجسد الانساني.. وشدة المرض وطوابير الخوف وتغلفل الروع مع النفس والدماء.. جرى منطلقا بلا انقطاع.. حتى سقط في فجوة بين اشجار عملاقة تتخالها فتحة تشع منها هالة اسطوانية من نور ، وركع باكيا ورفع راسه للسماء ومد يديه المرتجفتين الى اقصاهما وصرخ من قاع نفسه المستطارة... يا إلهي!! انقذني.. يا إلهي!!..
 
وتم انقاذ الرجل...