جدة .. جدة
سنة النشر : 17/05/1994
الصحيفة : عكاظ
ما أجمل هذه المدينة... شهق بها كل زائر لهـــــــــذه المدينة الفارهة. جدة.. تزور مدن العــــالم العظمي والصغرى.. وتتسع حدقات عينيك لمظاهر حادقة بها.. وتكون هذه المظاهر ضخامة..
او اتساعاً ، فقرا أو شراء. إزدحاماً وفوضى أو ترتيباً فائقاً ونظاماً صارماً.. ولكن في جدة يبرز جمال المدن. ذلك الجمال المترفع البعيد عن الفتنة.. ذلك الجمال الذي يجري مع الشعور والحس ولا يبهر الشعور والحس... يقولون أن بعض المدن تعشق... وجدة أعقل من أن تكون معشوقة.. حيث أن العشق فقاعة ملونة عطرة.. والفقاعات لا تعيش.. جدة تدفعك بتأثير متدافع و محصور للإعجاب والإعجاب نتيجة نفسية يشارك فيها ادراك العقل والقلب.. فالاعجاب يبقى مابقي بحرها.. وما بقيت تضاريسها... ومابقي أهلها.. جدة أنا معجب.. معجب متيم...
في دورية أمريكية وضعت موضوعاً رئيسا لأحد أعدادها عن ظاهرة سوء الخدمة التي انتشرت في الولايات المتحدة الامريكية.. ولم يقصد معدو ذلك التحقيق الخدمات العامة أو الحكومية.. وانما في قطاع الأعمال الخاص بالناحية الخدمية حيث تدفع مقابلا أكثر من مجز) لم يقدّم لك.. ولقد لاحظ المعدون بعد تجارب عملية وخبرات واقعية واستقصاء عام عن تراجع الخدمات وبالذات فيما يتعلق بالطباع والسلوك لبائعي الخدمات انفسهم أو فيما يتعلق بنوعية وجودة الخدمة.. فهم يحدثونك عن بائعين لامبالين وعن موظفين متقاعسين وعن رجال (أو نساء) استقبال متجهمين ثم يحيلونك الى تردي جودة الخدمة في شركات الهاتف ، وفي المطاعم ، وفي مرافق الكهرباء والماء ، وفي الفنادق والموتيلات. وعن نفسي فإن طبيعة ما استرزق منه تجعلني أسافر بين الحين والحين... وجمعت دلائل ، لايحتاجها الآن معدو ذلك التحقيق عن كل ما أوردوه من سلبيات في أكثر من بلد.. وفي الفندق الذي توجهت إليه مع عائلتي في جدة وجدت استقبالاً تعدى حدود الاحتراف ورأيتني محاطا بأحاسيس انسانية جميلة من البشاشة والتهذيب والتفاني أي والله بالخدمة.. ولن أكون متطرفا ومبالغا عندما أعلن أنها أفضل خدمة رأيتها ضمن تجاربي الشخصية.. وأعلم أننى أقول هذا الكلام وأنا بعد لم أطلع على الفاتورة!!.. كيف ينتقل الفانتازيا الى الواقع في جدة برعوا في ذلك.. فترى البحر يتداخل شريانا أزرق في الارض.. وترى الأرض تنازع شيئا من البحر لتنشر اطاراً انطباعيا يغرق في نشوة سادرة للتأمل في لوحة متكاملة وضع فكرتها مهندس حالم عظیم من أولئك الذي انتقل عشقهم اعجابا.. وتحولت احلامهم اعمالاً.. والأروع ان قاطني هذه المدينة الكوكب.. وهم كما رأيتهم بشر مثلنا ولأقل كبار قاطنيها يشاركون بوعي عفوي بنشر الصورة الفانتازية والجمال الخيالي بتأثير باذخ في تصميم داراتهم حيث ترى هندسة الانشاء بأقصى ضيائها وتجديدها.. وتراها بلمسات أخاذة من التاريخ.. ومن التراث.. ومن العالم.. عمل جماعي تديره « نية عامة ».. وسيمفونية ابداع لاتتراقص بها عصا المايسترو..
المال والأدب والفكر يعتقد الكثيرون ولطالما تساءلت عن مبعث هذا الاعتقاد الهش بأن الساعين وراء الربح والتجارة تنقصهم قدرات الأدب ويتيهون في دروب الفكر وهم في سعيهم اللاهث في ميادين العمل ومجتمع جدة دليل بازغ على خطل هذا التفكير بل تكاد الأسماء ( العائلية) تتشابه في مجال المال وفي مجال الثقافة.. بل ان النابهين من الأدباء وأصحاب الفكر أكثرهم من بيوتات مالية عريقة.. والملفت في مجتمع الرخاء هنا مباهاتهم بالمشاركات والجلسات الفكرية وهذا لعمري مزية صحية وتخرج هنا بانطباع أكيد بأن نجاح العائلات التجارية هو ضمن تاريخ متواصل من الحرفة والعلم والتفتح وصهر العناصر منذ أزمان.
عامر مصطفى.. أوجه هذه الفقرة من مقالي الى الشاب عامر مصطفى عسى أن يطلع هنا عما اكتب عنه فيما لم استطع قوله اساسه.. وهو شاب دمت من شباب هذه المدينة المترفة بهي المحيا خاطف الذكاء. لم ينه عقده الثاني بعد.. ويعمل متطوعاً في مركز العلوم والتكنولوجيا.. هذه المبادرة الحضارية لرجل أعمال ملأ الدنيا وتملؤه الآمال الكبار.. نعم شاب سعودي في فورة حياته ويعمل جادا وبدون مقابل سوی آن يستفيد في تلك الصومعة التقنية وسوى ان يعطي مما تعلم.. ولقد خدعونا بأن فتياننا تواكل وهزل.. ويرفع الغمامة شاب من ترايك وسجنتك ودمك يهزك تيها ويشجيك فخرا.. أدباً وعلما.. وجدية.. وهدفا.. عامر شكرا لك من شخص لايعرفك ولا تعرفه قابلك لتكون شاهداً باقياً لجيل قادم وقابلته عابراً في محطة تتبادل فيها الأجيال مشعل الدأب والنماء... للمدن التي تنام وتصحو بجانب أطراف البحار واجهة تتعامل بها مع العالم وهي المرافيء.. لذا كانت الموانيء مدارج الإلهام لمبدعي العالم من همنجواي الذي هام عشقاً في هافانا الى ماركيز الذي جال في مرافيء وثغور امريكا اللاتينية. وسومرست موم ذلك الكاهن الغربي الذي طارت عبقريته في ربوع جزر الشرق الأقصى.. والجدة ميناؤها الذي يوحي بسيدة العرائس وأميرة الثغور.. ذلك المركز الخدمي الفاره والذي نبذ تماماً الواجهات المظلمة للموانيء ليعطي الميناء الأنموذج الذي يغذي بايقاع منتظم وسريان متواصل سوقا هائلا نهما نبتة عبقرية فذة ويقوده نخبة تفوقت إدارياً حتى على نفسها.. لقد كنت يوماً أعمل في أحد موانئنا. ولقد امتلات منذ ذلك اليوم حباً أو ان شئت تحيزاً.. ولتزر ميناء جدة فهل تملك الا أن تتحيز!!