المبدأ بين التطبيق والواقع
سنة النشر : 10/05/1994
الصحيفة : عكاظ
ان الارتباطات الانسانية هي شبكــة مـن الاتصــالات والتعـامل التبادلي. وترتبط بمبادىء شبه ثابتة ويرضى بها الضمير العام.. وذلك في كل المجالات التي تشكل زخم الدياة بأبعادها. ولقد أفاض المفكرون والفلاسفة والاصلاحيون شرحا في تكريس وتغيير المباديء العليا التي تكفل للانسان الفرد والإنسان في مجموعته اعتباره وكرامته وانصافه ما امكن.. في الحرب والسلم في التجارة والاقتصاد في السياسة والحكم. ومع تعقد المجتمعات البشرية بمرور الازمان وتشابك المقاصد للفرد والمجموع ، والعنصر والعقيدة ، بدأت المبادىء تتشكل وتتسع وتضيق لاحتواء هذه المتغيرات والمواكبة مع تطوراتها للوصول لهدف نهائي باطنا او صريحا ، ويكون أباً للمبادىء في مجموعها اذا كان صريحا أو تبريرا للمبادىء اذا كان مبطنا ، ولهذا نشات الذرائعية التي تضع دوما منطقا لصاحب القدرة والسطوة للدفاع عن وسائله ومبتغاه ولم تكتف الذرائعية بالتبرير الجدلي الذي يعيد تركيب الحقائق وصياغة مفاهيم الحياة ، بل بدأت تتلبس صفات معنوية تعكس معانيها الخير والعدل والرفاه وعليك عندما ترغب اثبات عكس ذلك اللجوء الى النقض والتفكيك والاستدلال. فعوضا عن التبرير للفعل يجمل الفعل اولا بصفات لا يعني بالضرورة العمل بها تطبيقا.. وعندما تثور الانتقادات تبدأ هنا آلية التبرير بالعمل.. وتعطي صفة « الاستعمار » اكثر الامثلة سطوعا في ذلك.. فارتحال الأوروبيين البيض الى غابات العالم وبحاره وصحاريه منذ القرن الخامس عشر هو كما زعم للاخذ بالمجتمعات المتخلفة الى معارج الرقي ، والاعمار الحضاري في بلادهم القصية وأماكنهم النائية وتوالت القرون ليتجلى للعالم المعنى المؤذي « للاستعمار » لدرجة أن الكلمة فقدت معناها الحقيقي لتنطيع في الذهن البشري- خارج اوروبا- بمؤداها البغيض ، وكانها سيغت اصلا لوصفه... وحيث ان ما سبق ذكره هو في موضوع تكرر الخوض فيه منذ فلاسفة اليونان الى وقتنا الذي نشهده اي مخالفة المبدأ للتطبيق... الا انني ساستعرض في مقالتي هذه صعوبة تقبل واقع بعض المجتمعات لكثير من المباديء ذات القبول العام ، بحيث ينتج الاصرار على تطبيق المبدأ عنتا وعسرا على واقع معاش ومقبول وربما ادى تطبيق هذا المبدأ السرا على واقع ما الى اثر تدهوري على مصائر البشر في ذلك المكان.. ومن هنا تبدأ اشكالية تخلق حيرة مربكة من الصعب ايجاد حل لها مرض للضمير او مخرج مريح للعقل. وفي الحياة امثلة كثيرة لهذه الظاهرة ، ولم اعرف على حد ما اعلم ان حلولا قاطعة وضعت لها.. وتبدو هذه الظاهرة بصورتها السافرة في مجال المبادىء التي وضعها المهتمون في حقوق الطفل فحيث ان رفض استخدام الاطفال في المصانع والمعامل والورش يعتبر مبدأ لا يحاد عنه ، والاحتيال عليه يعتبر تصرفا خارجا في حق الاطفال يطاله القانون ويعافه الضمير العام.. وبشكل لا يقبل الجدل في العالم المتقدم ، نجد النقيض في بعض بلدان العالم الأقل تطورا.. فاستخدام الاطفال في المصانع وغيرها وبأجور تافهة في بعض دول أمريكا اللاتينية او في الهند وباكستان او افريقيا يعتبر انقاذا لهم من العوز والمرض والموت جوعا او قتلا في احيان كثيرة.. وتسجل حالات كبيرة في البرازيل مثلا عن اطفال طردوا من دور ذويهم لجلب المال من اي مكان وباية وسيلة ، أو يحرم استقبالهم وعودتهم ( وهذا بذاته وفر لا يستهان به!).. ومن هنا تثور إشكالية المبدأ والواقع.. المبدأ يخبرك وبرضى عميق من ضميرك بأن استخدام الطفولة في المصانع والمناجم والاعمال هو قتل للطفولة والواقع ينبئك بأن استخدام الطفولة في موقع ما في هذه الأرض هو انقاذ للحياة!! فينور الصراع بين المبدأ وبين تطبيق المبدأ على الواقع حيث يجب ألا تلوى المباديء ويصعب اعادة تشكيل الواقع او دونه المشاق والصعاب.. والنساء في بلدان كثيرة فقيرة يعتبرن أنفسهن محظوظات بهبات سماوية عندما يجدن سقفا يعملن تحته بكسائهن وغذائهن مع السماح بصحبة اطفالهن معهن ولقد اوردت مجلة harvard Business Review مثالا محددا لذلك من الواقع في معامل الملابس في بعض مدن الباكستان.
ولعدم تواؤم المبدأ مع الواقع أحداث تقع في كل مجتمع وفي كل مكان وزمان.. والحل مازال غير متيسر خصوصا عندما تتداخل مؤثرات التقاليد المترسبة ، والعادات الغريبة والاوضاع الاقتصادية المزرية... عندها تكون غريزة البقاء اللحظي هي المهيمنة.. مثل ذلك الذي يجا مد الابقاء رأسه فوق الماء.. ولو كان قرش شرس يلتهم باقي جسده ويطرح التساؤل نفسه هو هل يكيف العالم المباديء. لتصبح شيئا آخر غير ما رضيه ؟!.. أد يصنع واقعا غير الذي عرفه ؟