براكين نظام النقد وزلازله
سنة النشر : 01/04/1994
الصحيفة : عكاظ
وإذا كانت الادوات والوسائل كذلك.. فهل هي تحرك وتوظف في سبيل ما وضعت لأجله من قبل رجال الصناعة المالية ؟ إنه طبعاً استغراق طوباوي لو اعتقدنا بذلك.. النظام النقدي عالميا مازالت به فجوات بحجم البراكين وصدوع بحجم الزلازل وما يدركه العالمون ، هو متى يثور بركان هنا لصد حممه ؟ ومتى يضرب زلزال هناك للتصدي لعواقبه ولواحقه ؟...... ومنذ مؤتمر الأمم المتحدة لشئون المال والنقد الذي عقد في مدينة بريتون وودز في الولايات المتحدة الامريكية ( ١٩٩٤ م) والذي اشتهر باسمها اتفقت عقول المال انئذ على تهيئة العقود القادمة لنظام مالي راسخ ومقبول بعد فترات الكساد العظمى وسنوات الحرب.. وكان من ثمراته الكبرى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير.. إلى الحدث الدراماتيكي عندما اعلنت الادارة الامريكية في اوائل الستينيات عن منح الدولار الدفع الذاتي بعيدا عن قيود الذهب..... وفي ظل الرؤية المشوشة فيما يطرحه المتخصصون بشأن استقرار النقد العالمي. تبرز المصارف كأطواد سامقة يلوذ بها أصحاب الأموال اللاهثون لجلبه.. للحفظ... والنمو.. للتركيز على جلب المزيد منه ويتولى المصرف وأهله صداع ما وراء أروقته ومراكز تبادله وتنظيراته...
وسارت الأمور مطمئنة لفترة ظن الناس انه سيبقى دهرا.. حيث قامت البنوك بدورها كحافظة للمال العام والخاص وبكونها العصب الرئيسي للنظام الائتماني ثم برزت حدود وأنظمة الرقابة الحكومية على المصارف التي تساهم بما تصدره من شيكات في زيادة كمية النقود المتداولة ، مما يخلق تأثيرا مباشرا على المستوى الاقتصادي العام ، وما قد ينشأ عن طريق. تساهلها او تضييقها في إحداث تضخم نقدي او انكماش اقتصادي ، وذلك بواسطة ( أبو المصارف) البنك المركزي.. ورغم ذلك يقع المحذور.. وفي كل مرة كما قلنا ببركان تجرف حممه الآلاف من الناس أو بزلزال يبتلع المنشآت والشركات وتبقى آثاره لا تنمحي ولا تزول لعقود....... وفي منطقتنا وقع بنك انترا في لبنان منذ سنوات طوال.. لم يتعاف بعده الاقتصاد اللبناني حتى يومنا هذا ، ومع ذلك لم يكن ذلك الا طارئا لم يفقد المصارف ثقتها المتأصلة في اعماق المتعاملين. وفي الثمانينيات وبداية عقدنا هذا ثارت براكين صغيرة وبزغت شقوق لا يُعبأ بها كثيرا حيث كان اعلان افلاس البنوك وبالذات الصغرى شائعا ، كما نرى اليوم في صحفنا من اعلانات التقبيل والبيع يدافع السفر (!!)...
كان هناك شيء ما يدور في أقبية سحرة المال.. وعلى وجه التحديد ما طلعت به ( لجنة بازل من شروط ومقاييس أداء فيما يخص المصارف ونسبة الملاءة بها. وفسره العالم البعيد عن دهاليز حكماء.
النظام النقدي كظاهرة ايجابية لمزيد من الحرص على نظام قائم وثابت.... ثم كان الانفجار العظيم.. حيث تهاوى صرح مالي انتشر عبر القارات والبحار بعد ان ترنح لفترة.. ومازال صوت ارتطامه وتطاير أشلائه. يصم الآذان.. ومن نيويورك الى لندن ومن كراتشي الى جزر لا نجدها في الخريطة ، بكى الباكون ولطم اللأطمون.. وهاج الناقمون والغاضبون ذاك بنك الاعتماد!! وتناثرت الروايات عنه واختلقت اساطير حوله ومزج الواقع مع الخيال ، وتعددت الاغراض وتباينت المقاصد.. وما يهمنا ان بركانا هائلا ثار ووضع كافة النظام العالمي على سطح رخو نعلم ان منزلقاته ، آتية ، وانما اين ؟ ومتى ؟..... ولن ننتظر كثيرا.. فهناك زلزال مدو آخر يدمر الآن اقتصاد فنزويلا الدولة التي لم يقيض لها الفرح في نظامها الديمقراطي الهش الجديد الذي هدده سقوط مصرف بانكو لاتينو BANCO LATINO ثاني أكبر مؤسسة مالية في فنزويلا ، وهذا أدى الى خسارة عشرات الآلاف من الافراد والشركات والمؤسسات وبلديات المدن بل وأرصدة معاشات التقاعد الخاصة بالجيش ومؤسسة النفط الحكومية.. بخسائر قد تصل الى أربعة مليارات دولار... وأسباب انهيار بانكو لاتينو هي الاسباب ذاتها التي تتكرر دوما في كل المصارف التي تتعثر.. منها الطموح الزائد لدى مديري هذا المصرف الفنزويلي التوسعة غير المدروسة بفتح فروع كثيرة وجديدة للبنك ، واستقطاب الاموال بمعدلات فائدة مرتفعة تصل الى ( ۱۲). فضلا عن الغش والتدليس في التدوينات المحاسبية واظهار الارقام المنتفخة التي لا تمثل الواقع.. والتسيب الاداري وحتى الفساد السياسي.. وتبدأ الترنحات والتخبط عندما توظف أموال جديدة تحت فخاخ ارتفاع الفائدة على الودائع ثم تستخدم هذه الارصدة للتحلل من التزامات قديمة... بانكو لاتينو ليس الأول ولن يكون الاخير ، مادام في النظام المالي خلل لا يستدرك.. ولن تكون في منأى عن هذه المخاطر الا تلك الدول التي تطبق حكوماتها او بنوكها المركزية نظاماً رقابيا صحيحا على مصارفها.. والتي تنتهج النظرية الصحية البالغة التأثير.. الوقاية خير من العلاج..