الفكر والكون (3)

سنة النشر : 05/09/1995 الصحيفة : عكاظ

 
هذا الرجل المشلول المقعد والذى لا يستطيع الكلام ، ولا يقدر أن يتحكم بعضلات جسمه او تعابير وجهه.. لو كتب على سجيته لما فهمه إلا زبدة العلماء وليس كل العلماء.. وانما هؤلاء النادرون منهم الضالعون في علم الكونيات ، وعلم الجسيمات الفيزيائية والرياضيات المعقدة.. والخيال الجبار.. والعقل الباحث الذي يجرى وراء السدم والمجرات..
 
ولتعد إلى العام ١٩٧٤ م.. والمكان الحاضرة البريطانية لندن.. والحدث مؤتمر عالمي كبير يعالج احتمالات وجود حياة عاقلة في الفضاء.. والمنظم الجمعية الملكية.. وكما يقول كارل ساغال الاستاذ في جامعة كورنل الإمريكية بين فعاليات المؤتمر وفي قاعة مجاورة كان الزحام على أشده.. والمناسبة تعميد اعضاء جدد في الجمعية الملكية.. وكان هناك حضور باهر لعالم مقعد على كرسي مجهز شاب في مقتبل العمر وحوله التف جمع غفير ليوقع لهم بصعوبة بالغة على أحد كتبه.. هذا الرجل هو معجزة عصرنا العلمية عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكنغ Ste phen haWKING. ذلك الرجل الاسطوري الذي بحث والسم واستقصى واستنتج في علم الكون مما جعل العالم يقف احتراما لقدراته الفذة وجلده العظيم.. هذا الرجل ذاب في العالم الكوني السحيق وبلغ بذلك أيمانه بالعزة الالهية اقصاء عندما ادرك استحالة الاحاطة بالوجود..
 
هوكنغ وضع هذا الكتاب الذي نحن بصدده لغير المختصين.. أي للعامة امثالي.. واجد انه يجب أن اعترف امامكم بأنني واجهت مشقة في فهمه واستبعابه ولكني استغرقت حتى غرقت في المتاهات الكونية منذ الانفجار العظيم والبعد الزمني الرابع وانحناء الكون والجدود التي لا تعرف للفيزياء والفلك والكونيات والاقدام العلمي الجريء.. هذا الكتاب الذي يعتبر درة الكتب العلمية المعاصرة بعنوان (موجز بتاريخ الزمان) ABRIEP hISTORY OF TIME
 
إن هوكنغ مقعد تماما ملتصق بكرسي يعتبر فريدا في الانجاز التكنولوجي يساعد على قضاء شكون حياته ووظائفه الحيوية وملحق به جهاز كمبيوتر يوضح ما ينطق به في القاء محاضراته العلمية ، وهو استاذ للرياضيات في جامعة كمبردج » المنصب الذي شغلته سلفه العظيم اسحق نيوتن. « هوكنغ » هو « نيوتن » عصرنا هوكنغ مصاب بمرض نادر يطلق عليه اختصارا اسم ( ALS) تتصلب فيه وتضمر العضلات.. ومع كل ذلك فهو متزوج وله ابناء..
 
في كتابه (موجز في تاريخ) الزمن يفتح لنا هوكنغ مصاريع القضاء متطرقا بتبسط ما أمكنه وبدون معادلات رياضية ماعدا معادلة انشتاين الشهيرة الى المسائل التي قادته للأبحاث في علم الكون وفي نظرية الكم ، وهو يجمع بين نظريتي هذا القرن، النسبية العامة والجاذبية الكمية في نظرية عظمى موحدة ومتكاملة!
 
ويبدأ هو كنغ الفصل الأول في كتابه في ذلك البحث الازلي منذ رفع الانسان الاول رأسه إلى السماء وقدماه ثابتتان على الأرض. عندما بدأ يتساءل ماهي الفضاء ؟ ماهذه الارض ؟ هل هي معلقة في السماء ؟ أم هي في جوف الفضاء ؟ ولجأ بعقله البسيط إلى التفسيرات الخرافية والرجم الماورائي.. فمرة الارض على قرني ثور عظيم.. وتارة يحملها مارد جبار عوقب من قبل الالهة.. بل ان هو كنغ يروى حادثة طريفة وقعت للفيلسوف الانجليزي برتراند رسل حين كان يلقي محاضرة عامة عن علم الفلك واصفا كيف تدور الأرض حول الشمس وكيف تدور الشمس حول مركز مجموعة كبيرة من النجوم تدعى المجرة. عندما وقفت سيدة عجوز وقالت: إن ماتقوله غير صحيح.. فالعالم عبارة عن لوح مسطح ومستند على ظهر سلحفاة عملاقة ».. هذا اعتقاد امرأة بأوربا في القرن العشرين ؟!
 
ويخرج هو كنغ من نظرتنا إلى الكون بتحليل لا يجزم فيه بالدقة أو الصحيح المطلق موضحا ان ما يعتمد عليه في قياسات ظواهر الكون هما نظريتا النصف الأول لهذا القرن نظرية البرت اينشتاين النسبية العامة. ونظرية ميكانيكا الكم.. فنظرية النسبية العامة تصف قوة الجاذبية وبنية الكون بالقياسات الكبرى أى الى مليون مليون مليون مليون ميل (!!)) وهو ما يعتقد بانه حجم الكون المنظور.. اما نظرية ميكانيكا الكم فهي تتعاطى مع الظواهر على مقاسات متناهية الصغر (جزء من مليون مليون من البوصة).. اذن هما على طرفي نقيض وهو كنغ يقول انه من الطبيعي الا تكون كلتاهما صحيحة.. أذن فالبحث عن نظرية جديدة لدمج الاثنتين معا.. ويخرج هوكنغ باستنتاج ذي دلالة بأن هذا الكون لا يمكن ان يكون اعتباطيا بل مضبوطا بقوانين واضحة.. وعليه ايمانا بهذه الاحادية الشاملة ، على العقل الباحث ضم وتوحيد النظريات الجزئية في نظرية كاملة موحدة. وبعد تجليات علمية باسقة في فصوله الأخرى عن الزمان والمكان. وعن سهم الزمن.. وعن العوائق الرياضية وحدود العقل في تخوم الاحاطة للكون والوجود يقف هو كنغ امام الانكشاف الاعظم امام الحقيقة والحق الالهي الذي كان وراء وجود الكون وسبب علته.. وأن ما يسمى بالانحساف الكوني وظواهر الثقوب السوداء والذي يعتقد انها قد تكون نهاية العالم لا تعني الدليل المطلق مهما بلغت تصوراتنا الفلكية وتحليلاتنا الرياضية... ولكن اكتشف الفكر من خلال تجواله الكوني الحقيقة العظمى الثابتة حقيقة الخالق العظيم..