الفكر والكون (1)

سنة النشر : 22/08/1995 الصحيفة : عكاظ

 
تتجلى القدرة الالهية في كل ما حولنا. وفي كل ما يحيط بنا تنكشف لنا أضواء باهرة للسناء الرباني اللامتناهي عندما نعطي لفكرنا ولروحنا حق التأمل المتعمق... مهما كان قصيرا...
 
على أنني ازداد خشوعا وتحتويني احساسات طاغية واثيرة عندما أقرأ أو اتفهم.. أو يأخذني التأمل بملكاتي القاصرة في مخلوقين لاندرك لهما- حتى الآن- تخوما ولا نسعهما تخيلا ولا تنقاد لهما حساباتنا ونظرياتنا العلمية والرياضية.. وهما الكون الهائل الذي لايقبل اتساعه قياساتنا ولا تنطبق عليه مفهوماتنا اللغوية والفكر الانساني وبالذات لدى نخبة من البشر أمعنوا في استخدامه فأمدهم بافاق تعدت مرحلة الرؤى الانسانية المباشرة بأبعاد وابعاد. وعندما اشير الى الفكر هنا لا اعني الدماغ من ناحية التشريح والفسيولوجيا ومازال العلم يخوض فقط في سواحله القريبة وانما اهدف الى تصوراته ورؤاه واستنباطاته وخيلاته المفتوحة بلا حدود ثم ان العبقرية الأدمية تظهر في مجالات عبدة- ولا نقاش في ذلك في الفلسفة وفي المنطق وفي العلوم وفي قضايا الحياة عامة.. ولكنك تتلمس عظمة وسمو وعلقة الفكر عندما يخطو بثقة رهيبة محفوفة بكل المخاطر العقلية والمنطقية والتصورية في مجال الكونيات COSMOLOGY عندما يكاد العقل والتصور أن يخرج من اطاره المحسوس، ومن إدراكه الملموس ، ومن قياسه المنطقي الذي اخذ قالبا بدهيا واستقر في وجدان الانسان وفي عقله منذ قرون.. فاذا الزمان غير الزمان.. واذا المكان غير المكان. والاهم بدء التعرف على أكوان كبرى لم تعد الارض فيها ولا الانسان مركزا للكون. فثارت الكنائس واعمى الغضب والحمق الاكليرك. المتعصبين اصحاب الصكوك الغفرانية. والاقطاعيات الارضية الشاسعة عندما تجراً كوبر نيكس البولندي بالخروج بفكرة أن. الشمس ثابتة في المركز وان الكواكب تدور حولها في مسارات دائرية.. وللمفارقة فانه- اي نيكولاس كوبر نيكس.. من وسط كهنوتي.. وربما هذا ما جعله تخوفا من أن يتهم بالهرطقة ان يتقدم بدراسة مغفلة بدون اسم ولك أن تقدر عظمة الفكر لدى الرجل الذي اعمل عقله ذا المنطق الرياضي البالغ النسق وبدون أدوات فلكية او حسابية تذكر الى اكتشاف هذه الثابتة. الكونية...
 
اذن تظهر سمات الفكر الإنساني القابل الخوض مغامرات عقلية شاهقة القدرة في الفيزياء النظرية بالذات حيث انها ترتبط بالكون والافلاك المتناهية في الكبر والى دراسة أدق الجسيمات. مادة البناء الأولية في العادة المتناهية في الصغر..
 
ان تفهم الطبيعة والميكانيكية الأرضية مع الحضور الذهني الرفيع المنهجي والطاقة العقلية الخارقة هي التي كانت وراء وضع السير اسحق نيوتن قانون الجاذبية الكونية الذي يقول بانجذاب كل جسم نحو جسم آخر بقودة تزداد طردا مع كتلتيهما ومع قربهما من بعض.. كانت هذه القوة هي التي تجعل الاشياء تسقط على الارض وقد وضح ذلك في كتابه العظيم « المبادىء الرياضية للفلسفة الطبيعية والذي كان نقلة كبرى للمسارات الفكرية البشرية الذي أثبت نيوتن فيه عن طريق تحليلاته الذهنية أنه أكبر العقول الرياضية في التاريخ البشري برمته.. وقد مضى « نیوتن » ليثبت أن الجاذبية بناء على قوانينه في الرياضيات والديناميكا تدفع القمر الى الدوران في مدار بيضاوي اهليلجي » حول الارض ، وكذلك الارض والكواكب تتبع مدارا اهليلجيا حول الشمس معدلا بشكل نهائي نظرية كوبر نيكس ذات المسارات الدائرية.. كما خرج نيوتن بعقله الفائق الى مجموعة القوانين والمعادلات الرياضية المعقدة التي مهدت لمناخ فكري بأن الكون في تمدد أو في تقلص أي في حركة وتغيير ، بينما استقرت الاعتقادات البشرية منذ القدم إلى أيام نيوتن بان الكون وجد منذ الأزل بوضع ثابت او انه خلق في زمن محدود من الماضي كما نراه اليوم.. فكانت ما تستكين اليه ميول الناس بان الكون ابدي لا يتغير.
 
كان نيوتن عقلا لايباری امضى حياته دائم الذراع مع سواد من الاكاديميين لآرائه ونظرياته القوية خصوصا عندما نشرها في كتابه المذكور والذي يعد بحق أهم كتاب فيزيائي على الاطلاق واخذ في حياته نصيبه من ألق المجد وهالاته وعين رئيسا للجمعية الملكية وأول عالم يمنح لقب «فارس».. وفي بحوثه الكونية ابتكر نيوتن الرياضيات المعقدة الضرورية لتحليل حركات كيفية دوران الاجسام في المكان والزمان ومن استنتاجاته العقلية المدهشة ما أوضحه الى احد مفكري عصر الكبار « ريتشارد بنتلي بانه لا يمكن أن يكون هناك عدد غير محدود من النجوم الموزعة بتناسق في فضاء لامتناه لانه عندها لن يكون ثمة نقطة مركزية تقع عليها... أنه المجد والتفوق والسمو الذي حباه الله في العقل الانساني مجبول مع جبروت واتساع كوني دائما يفوق القدرة المباشرة ويجر بلا نهاية العقل الانساني بجراة وتحد خارقين. معجزات رب الملكوت ومنشيء الخلق. وفي الحلقة القادمة سنتابع الخوض في المسائل الكونية الرائعة وارتباط وتوافق العقل الانساني البازغ معها متطرقا بالحديث عن الايطالي الاشهر غاليلو ، وعن العالم المعاصر المعجزة المقعد والعاجز كليا عن الحركة والكلام ستيفن هوكنغ وعن كتابه موجز في تاريخ الزمان الذي يعطي دليلا على المقدرة الإدهاشية للعقل الانساني وعن البرت اينشتاين العقل الاسطوري صاحب النسبية الذي صاحبنا حتى منتصف هذا القرن.