عبقرية الإعجاز

سنة النشر : 18/07/1995 الصحيفة : عكاظ

 
"قل لئن اجتمعت الانس والجن على إن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" الأسراء ۸۸
 
إن عظمة القرآن وسموه البـاسـق هـو كونه أعجازيا.. والذي ادرك هذا الاعجاز هو العربي الذي عاش في مكة حينما كانت الآيات القرانية تنزل على النبي محمد او ان ذاك العربي هو أول من أدرك ذلك، والسبب كان طبيعة ثقافة العربي التاسيسية والفطرية فة العربية ولغته المحلية وكون مكة بالذات مركز الالتقاء الذروة الفكر واللغة عن طريق تجمع الشعراء والتنافس الشعري والفوز بالا علوية اللغوية وتعليق القصائد المتميزة على جدار الكعبة لذا نما ذوق فطري عام وصلت به اللغة وتذوق اللغة الى اوجها حتى بلغ الترتم ببعض الابيات والمعاني الشعرية ان يقول أحدهم كفى لن ياتى العرب بأبلغ من هذاء اذا كان هناك تهيؤ واعداد للفهم والاستيعاب الجمال التعبيري فوق أن اللغة لغتهم التي يعبرون فيها في حياتهم اليومية.. وما أعالجه هنا هل مازال هذا التذوق القطري أو التعمق الطبيعي بجماليات اللغة لدينا نحن الاجيال الحاضرة أم اندثر مع ما اندثر من صفات كانت لدينا ؟! هل مازلنا كأجدادنا الاقدمين تتداخل اللغة مع خدسنا وتذوب مع اشاعيرنا؟ ام اننا نتلمسها يعقلنا محاولين الافصاح عن مغاليقها كما تفعل تقريباً امام اقفال لغة اجنبية علينا؟. لنعد إلى التاريخ وتخيل المجتمع المكي التجاري الثقافي وكيف كانت اللغة من اساسيات الحياة التخاطب والاتفاقات والمباراة الأدبية وفخامة اللغة التي وصل اليها الشعر الجاهلي، وهذا ما اثبته التاريخ العلمي الصحيح بعيداً عن فرض بعض المستشرقين في العقود الأولى من هذا القرن بالتشكيك في الشعر الجاهلي بقيادة فكرية بحثية منسقة من المستشرق مرجليوث والذي كان من أساطين الاستشراق المشهود لهم ، ومن المثير الكثير من الاربالك في الاوساط العلمية العربية انذاك أن كثيراً من تلامذته ومعجبيه كانوا من ذوي السيادة الفكرية في الدوائر الثقافية العربية ، وطه حسين كما نعرف استند كثيراً على المرجليونية ، في كتاب المثير للغط الشعر الجاهلي وإن اشار الى انه يلجا إلى المنهج الوضعي الديكارتي، ولهذا المنهج- كما أرى جاذبية واستقطاب عابي في رشاقته الهندسية..
 
وقبل أن أعطى متسالا على غدراك العربي المكي للمعجزة القرآنية التي صعقت البابهم وادارت ارواحهم وجعلتهم اما يذوبون ايمانا او يكابرون اكبارا ، فلعلي أوضح ان الاعجاز في اللغة يعني الايقاع في العجز اما في الاصطلاح فهر الحجة الدافعة التي يقدمها القرآن الى خصومه من المشركين ليعجزهم بها.. ولقد أعلن القرآن الحجة بقوله جل شانه: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين"... ولقد اتصفت الشعوب والحضارات منذ القدم « بصفات قومية عامة... فاليونان كانوا مغرمين بصور الجمال (كإبداعات فيدياس) وبظواهر وأدلة المنطق والحكمة ( عبقرية سقراط والفرس والهنود بجماليات الفلسفة والفخامة الملحمية في الميتافيزيقا (اللاهوت الاسطوري وملاحم الميراميتا والزرادشتيه).. أما العرب فقد كانوا لغتهم ، حتى كادوا ان يقدسوا مع أوثانهم بيانهم.. هذه هي الظروف المهيئة آنذاك في الفترة التي كان ينزل بها القرآن لتلج شغاف ارواحهم بما جبلوا عليه من تركيب قطري في التذوق البياني..
 
ولنبدأ بالنبي محمد ﷺ والذي كان عربياً سليم اللغة رفيع البيان.. لماذا وجب قلبه وارتجف ودخل على زوجته خديجة قائلاً "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه ( الروع) لماذا ارتاع عليه الصلاة والسلام... ماراعه قول قول حين فاجأه الوح حي في الغار غار حراء.. وقال له اقرأ فقال: «ما أنا بقاري ثم لم يزل به حتى قرأ إقرأ باسم ريك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان مالم يعلم. وعلم الرسول بادراكه البياني أن ليس في وسع بشري ان يأتي بمثل ذلك... وابتدأت اعظم عقيدة دينية عرفها الانسان... وهذا ما جعل العرب في حيرة كسلام من جنس كلامهم يتلى من قبل رجل منهم... بلسان عربي مبين.. وتكابر ولاتدرى ماتقول فيه وان كان بأسرهم أسرا.. واجتمع أهل الرأي فيهم (وما نسميه الان في ادبياتنا نخبة) أى من قريش وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة ودارت المشورة لاطلاق صفة للرسول للتحرر من هذا الاسر البياني الذي لا يقاوم فقالوا: كاهن اوشاعر او مجنون الا ان الوليد لم يستطع أن يستسيغ ذلك رادا عليهم بقوله المشهور: والله ان لقوله الحلاوة ، وأن أصله العذق وإن فرعه لجناة ، وما انتم بقائلين من هذا شيئاً الا عرف أنه باطل وان اقرب القول فيه لان تقولوا (ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته.. إن الادراكات اللغوية الفطرية ووله العرب بالبيان وطلاوة التعبير هي التي ابانت لديهم وأمامهم المعجزة القرآنية.. وهذه بحد ذاتها صفة عظيمة من صفات القرآن: لعب التذوق العربي القطري الاساسي دورا في الاستيعاب الاعجازي للقرآن.. والتمتع حتى الانتشاء الروحي والنفسي العميقين في قراءته وتلاوته واستدلال معانيه وحفظه واسترجاعه واستعادته في كل مناسباتهم..
 
هل مازال هذا التذوق اللغوى والبياني قائماً ؟ قبل ان انهي موضوعي هذا اترككم مع عبارة للمفكر الجزائري مالك بن نبي لنا جميعا حق مناقشتها وهي والحق انه لا يوجد مسلم وبخاصة في البلاد غير العربية- يمكنه أن يقارن موضوعيا بين اية قرانية ، وفقرة موزونة او مقفاة من ادب العصر الجاهلي فمنذ وقت طويل لم نعد نملك في اذواقنا عبقرية اللغة العربية!