.. إلى أن نندهش!

سنة النشر : 27/09/1994 الصحيفة : عكاظ

 
حري بدهشتك أن تفتح لك الباب إلى قلب الحياة الفسيح (ميخائيل نعيمة).. يعني حتى تفكر لابد ان تندهش شيء يجب أن يكسر قالب التعود لديك.. التعود الذي ينزع من الاشـياء جاذبيتها.. والذي يحجب من الظواهر استدعاءاتها.. أن ندهش هو أن تلفتنا المحسوسات والمدركات حولنا. ومن لم تتلمس الطريق للمعرفة. و كشف الغطاء عن مكدونها.. وازالة الحجب عن انبعاثاتها.. وتحري انطلاقاتها وأسبابها.. ومن هنا تسقى نسوع الحياة... إن ثمرة التفاح تتساقط عند الاكتمال من وجدت الشجرة.. ولم تثر فكسر أج................
 
وأجيال من البشر لأن عقولهم كبلت بأصفاد التعود والتعود يقعد على الفكر ولا يعطيه منفسا للانطلاق والتفسير.. حتى جاء القرن الثامن عشر وإذا بصاحب الدماغ الهائل اسحق نيوتن) الفيزيائي الإنجليزي ، تستثيره التفاحة الساقطة ويدهش من هذه الظاهرة.. وشحذ تفكيره فبنى نظرياته، وتحقق بتجاربه ، ووضع الحضارة على منصة انطلاق عظيمة لارتياد اجواء من الاكتشافات والتقدم.. حينما اكتشف قانون الجاذبية العام وقوانين الحركة.. وبقيت الاهرامات منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد إلى بدايات القرن التاسع عشر رمزا أسطوريا للماضي عند أهل مصر ومن يزور مصر ، تعودت أن تراه العيون من الاسلاف الى الاحفاد دون ان تدرك كنهه وتحيط بأسبابه ، تعودت الناس على كيانات حجرية عملاقة كانها شقت الصحراء منذ الأزل لتستقر عليها إلى الأبد.. إلا أن الدهشة الكبرى التي أثارتها هذه الأهرامات الغامضة للفرنسيين عندما غزا نابليون الأراضي المصرية وما زرعتها في نفوسهم من هول الماضي السحيق قادتهم الى اكتشاف حجر رشيد.. ونجح شامبليون) أنبه علماء فرنسا في زمانه في نك طلاسم النقوش والرموز التي حفرت على هذا الحجر.. ونقل مع تلميذه القذ الايطالي (روزليني) الكثير من نصوص هذه اللغة.. واضعين لها أول أجرومية. وفتحت الانسانية خيالها على حضارة متفوقة تتجاوز الأساطير.
 
أني ارى بزوغ علوم الجغرافيا والانثروبولوجيا والفيزياء اعتمدت على فئة عبقرية من البشر كان اقدر صفاتهم او ابرز ملكاتهم القدرة على الاندهاش.. وبعث الرعشة والتيارات الحاثة لإعمال العقل في البحث والتنقيب والتسجيل.. فما انطلقت الفلك منذ فجر التاريخ الانساني في البحار بحنا عن الاراضي الجديدة والثروات التي بلا حدود. إلا من دافع علم سام ( علم الفلك) حينما اندهش المراقبون في ثباتها الايدي ومقدار اشعاعاتها من الضوء الذي لا ينقص ولا يزيد وجعلوه علامات كونية لا تحيد وهم في عرض الماء الواسع.. وإن الدهشة التي أثارتها التضاريس الجديدة والأرخبيلات والمضايق والجذر والخلجان في طرق ومعابر الأوقيانوسات هي التي دعت المكتشفين والجغرافيين والتجار.. والدعاة.. وحتى القراصنة إلى رسم الخرائط التفصيلية وتسجيل المواقع والبروز ، والاعماق ، والطقس والبيئة. وخطوط العرض والطول الوهمية.. ورسم اتجاه الرياح ومصادر خروجها.. وأماكنها واتجاهاتها واطلاق الاسماء عليها لتعرف نتيجة منذئذ الأرض التي نعيش فيها منذ البدء.. ودراسة الحضارات البشرية تاريخا وقكرا ، واجتماعا ، واعتقادا ، وميثالوجا وتمازج الشعوب ومن ثم تبادلها التجاري والفكري وانفتاح الأمم على بعضها كان جهود الذين ساحوا في الأرض.. ولم يكتفوا بالسياحة.. بل حملتهم قبل كل ذلك الدهشة والتطلع الى معرفة وقهم كل غريب. والفيزياء ذلك العلم الجليل الذي لا يمكن بأي حال الوصول الى حقائقه واكتشاف قوانینه بدون عامل الدهشة من الظواهر... والبحث في أسبابها قبل الاعتقاد بتلقائيتها.. وعن طريق الفيزياء روضت العوامل الطبيعية لرفاه الانسان وتقدمه.. والله تعالى يقول أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الأعراف ١٨٥- ولا عجب أن يبرز المسلمون في العلوم السابقة ، التي رأينا ان يكون عامل الاندهاش والتأمل والتبصر ، والذي دعا الله عباده في القرآن العظيم إلى التبصر بملكوته ، وانظر الحكمة الأسمى التبصر في مخلوقات الله وظواهر ما خلق ، فاللبه يعلم أننا نبصرها كل يوم.. إنها دعوة الى التفكير والاستدلال.. عدم الاستسلام لجمود ورتابة وبلادة التعود هي القدرة على الاندهاش.. القدرة على التبصر.. فابن الهيثم مثلا لم يجد التعود إلى ذهنه المتقد سبيلا، بل وزاد على ذلك، وببصيرة فذة.. فدحض نظرية اساتذته اليونانيين.. حيث كانت النظرية اليونا نانية تفسر الرؤية بانها تحصل من انبعاث شعاع ضوئي من العين إلى الجسم المرئي.. وهذه تبدو مسلمة انذاك. ومنطقية ربما حتى الآن للكثيرين) وكان تفسير ابن الهيثم الداعي للاندهاش فعلا قوله من أن الرؤية تحصل من انبعاث الأشعة من الجسم الى العين التي تخترقها الاشعة فترتسم على الشبكية ، وينتقل الأثر من الشبكية الى الدماغ بواسطة عصب الرؤية ، فتحصل الصورة المرئية للجسم ( تصور). وان اندهاش الطبيب العربي الدمشقي ابن النفيس لعمل وظائف الرئة والبحث وراء ظواهر اليتها قساده الى اكتشاف الدورة الدموية الرئوية.. فوصفها بدقة علمية بالغة ( وأظن- إن كنت صائبا ان هذا الوصف في كتابه المهم « شرح تشريح القانون » وهو في ذلك سبق مايكل سرفتس الذي ينسب اليه الغرب الفضل في ذلك.
 
إن الموضوع يكاد ألا ينتهي..
 
ولكنها دعوة في ولأمثالي من الذين اعتادوا أن يبصروا ويتعاملوا مع الاشياء باستجابات تلقائية وكأنهم يعرفون دقائقها حتى قبل ان توجد دعوة لإعادة اكتشاف كل ما حولنا.. كل شيء يستحق التبصر..والتأمل والاندهاش.. وقبلها اكتشف قدرتك على الدهشة!