من المنتصر؟!
سنة النشر : 16/08/1994
الصحيفة : عكاظ
هل يمكن للغة العربية أن تكون لغة علوم؟ وهل بالامكان عمليا اعتماد اللغة العربية في تدريس العلوم المتقدمة وذات البحوث المتوالية والتقنية العالية؟ هذا موضوع اثار الجدل وسبب الجدال بين المفكرين والعلماء والتربويين والأكاديميين العرب لعدة عقود من الزمن.. ولم تصل حتى الآن في العالم العربي الى حلول أساسية أو تطبيقات ناجحة لهذه اللغة الجميلة والقادرة لأسباب تعلمها.. ولأسباب نجهلها.. والظروف نتعامل معها.. ولظروف تفرض علينا.. ولقد حاولت بعض الدول العربية-- رغم كل الظروف التي أسلفت ذكرها على الاصرار بتعليم تلامذتها الجامعيين وفي المجالات المتخصصة كالطب والصيدلة والهندسة باللغة العربية... وماذا كانت النتيجة ؟. تخرج الطلاب وهم بمعزل عن العالم العلمي الذي يمور خارجا... ووعت أعينهم حقيقة صريحة ومؤلمة بأن دولهم لا تملك البنى الاساسية لتطوير العلوم ووسائل البحث بل وحتى نضب في نواحي التطبيق. ومن ثم ادركوا واقعا لا يمكن تجاهله ، أنهم بلغتهم الجميلة والقوية وتجربتهم الشجاعة الرائدة. وضعوا أنفسهم في جزيرة معزولة في يم واسع لا تطاله المراكب ولا يصله العابرون جزيرة بلا منارة ، وبلا مرسى جزيرة بلا جسور. ومادام الحديث في هذا الموضوع قد الح علي في الاستمرار فدعني أخبرك عن الجانب الآخر من الحكاية والتي تجعلها أقتم صورة والذع طعماً.. وهو تقبل أبناء اللغة العربية انفسهم للغتهم ؟ وإذا كان من الصعب تصور ذلك.. فلقد قدر لي أن أكون مستمعا لمحاضر في أحد التخصصات الطبية يلقي على مجموعة من أطبائنا الشباب محاضرته باللغة العربية لكونه قد حصل على تعليمه الطبي المبكر باللغة العربية في بلده سورية.. ولقد وان على المستمعين الصمت المطبق والعيون شاردة.. والأفكار زائفة.. وكأنه يتحدث بلغة مجموعة شمسية خارج مجرتنا ولقد سمعت لأول مرة رغم ما يحلو لي الادعاء فيه عن سعة اطلاعي في لغتنا- بكلمات ومصطلحات لم أدرك مسبقا بأنها في هذه اللغة. عبارة عن استنباطات. وفي واشتقاقات وتركيبات وتعريب لمصطلحات وكلمبات ومفاهيم لاتينية وعصرية.. معا وضعني تحت اعتقاد ثابت بأن الطالب عليه سبان يدخل مرحلة إعداد لفهم هذه اللغة.. تماما كما يتم مع الطلبة الذين يرغبون بالتخصص في مجالات تدرس بغير لغتهم الأم. ولقد أثارني هذا الأمر تماما فأنا- بطبيعة الحال- متعصب للغتي العربية وأعلم بقدراتها الكبيرة.. ولكن هما أنا أرى تجربة واقعية جانبها النجاح.. ولن أسمح لنفسي بالطيع بالقاء اللوم على اللغة ذاتها.. بقدر ما يجب أن أدفع الفكري تقصي الحقائق وراء هذا القصور فلقد أثبتت اللغة العربية أنها لغة العلوم قبل ان تفتح اللغات الأوروبية الحديثة أجفانها المغلقة.. في بصريات ابن الهيثم وتجارب ابن حيان والكوكبة اللامعة من العلماء العرب.. بل أن أوروبا لما أرادت النهوض والانفصال عن الغيبيات الكنسية باستخدام المنطق الاستدلالي ( وبالذات في المنهاج الأرسطي لم تدرك تصنيفاته باللغة الأساسية وكانت شروحات وتفسيرات الفيلسوف الفذ ( ابن رشد) وبلغته العربية الواضحة العلمية والعملية هي الواسطة الى عقول الغربيين في تلك الأيام الغابرة- سُقيا لذلك الزمن!- وكافة طلاب العلم من بولونيا الى فرنسا يحجون عبر الأوراس الى الولايات الجنوبية الاندلسية للنهل من كنوز العلوم العربية ويعودون علماء محترمين إلى بلدانهم القيادة مواكب النهوض في القارة الأوروبية إلى آفاق الاكتشاف والعلوم.. وبالمناسبة فلقد تخصص يهود أسبانيا في القرن الثالث والرابع عشر باحتكار مصادر العلوم العربية وتلقوا الوافدين عبر الأوراس في شمال أيبريا للتجارة في العلوم والمصادر العربية الزاهرة- فيالهؤلاء اليهود... إذن المقال لا يتسع الى تسبيب تأخر اللغة العربية.. ولكن من الواضح أن العيوب صارت في أبناء اللغة الذين تخلفوا عن الركب.. والضعف مراكز البحث وندرة العمل الترجمي المتخصص.. أعط هذه الامة طبيبا مترجما.. ومهندسا مترجما.. وأنثربولوجيا مترجما.. ومعامل للرصد والبحث والمتابعة.. وتعامل مع اللغة مع واقعها الجديد ومفاهيم العامة السائدة.. وانظر ما ستجني من هذه اللغة وثراء ما ستعطيه... ولقد تلقيت اهداء مفرحا هذا اليوم من الدكتور سليمان العودة عميد كلية الطب في جامعة الملك فيصل وهو كتاب قسام على تأليفه باسم الأمراض النسائية.. والجديد هنا ليس الأمراض وقانا الله وإياكم منها.. ولكن الجديد أن هذا الكتاب الطبي أعد وكتب من غلافه الى غلافه باللغة العربية. والملفت أيضا أنه كتب باللغة العربية التي افهمها أنا وتفهمها أنت.. وتعرفها نساؤنا بل وحتى أحداثنا من البنين والبنات.
ومن المفيد أن تقرأ.. ومن المفرح أن تفهم ماذا تقرأ وعن ماذا تقرأ.. وهذا ما نفذه بصبر يحسد عليه الدكتور العودة.. ولقد أحسست بارتياح عميق وأنا أتصفح هذا الكتاب كمن عثر على ضالته.. وفي هذا الكتاب انتصار.. ولكني حائر لمن اجيره هل هو انتصار لصالح الدكتور سليمان العودة.. أم انتصار لصالح اللغة العربية!!