آن للقلب الكبير أن يشكو

سنة النشر : 09/08/1994 الصحيفة : عكاظ

 
القاعة الكبيرة يشملها الهدوء ما عدا أصوات اجهزة الكلى الصناعية مربوطة بالمرضى المستلقين باستسلام وادع والدماء تخرج من عروقهم عبر الأنابيب البلاستيكية المعقمة لترجع سائغة مصفاة.. وذلك لأن كلاهم الطبيعية قد أصابها بسبب ما التهابات مزمنة الى ان توقف نشاطها نهائيا.. وتجوب الممرضات والعاملات والعاملون عبر القاعة بأزيائهم البيضاء يحملون الأدوات هنا.. ويعاينون الاجهزة هناك.. والبعض غارقات باهتمام في فحص وتتبع الظواهر الحيوية للمرضى عبر عملية تنقية الدم التي تستغرق عدة ساعات.. وكانت الممرضة ( ب) تتابع اعمالها المعتادة بالاشراف على المرضى عموما.. وتسجيل كشوفاتهم.. وجمع المعلومات البيولوجية الخاصة بهم لاعدادهم لمرحلة زرع الاعضاء في حالة توفر المتبرعين المناسبين.. أو الكلى الملائمة.. ولقد عرفت هذه الممرضة بالذات بين المرضى بصباحة المحيا والأدب الجم.. والتفاني في أداء الواجب.. وبقلب رحب يسع معاناة الجميع.. وكان من الواجبات الكثيرة الملقاة على عاتق هذه الممرضة- بما توسم بها من معرفة واسعة بحالات الفشل الكلوي وبعمليات التنقية تلخيص الحالات وتقديمها بشكل تقارير شفاهية دقيقة للأطباء المختصين عند جولاتهم اليومية في عيادة مرضاهم.. ولقد كان جميع المرضى يحتلون موقعا أثيرا في نفس وضمير هذه الفتاة حتى كادت تنسي متطلباتها الذاتية وموطنها الأرخبيلي البعيد.. وبناء شيء لمستقبلها.. كانت نوعاً اسطوريا من البشر الذين يذكروننا بارتباط السماء بالأرض.. يدفعها عوامل غريزية استعدادية مبادرة فقط للبذل والعطاء.. كأن القناعة والأخذ لديها هو أن تهب وتعطي بلا توقف وبلا حد.. وشفع ذلك بالإعداد الرباني ايمان عميق بدينها الاسلامي الذي يقبض عليه كالجمر في بلادها الكاثوليكية... الا أن مريضا تم ادخاله مؤخرا لعمليات التنقية صار يأخذ الكثير من اهتمامها وتعاطفها وذلك لظروفه الحياتية القاتمة ولتعدد الأمراض في بدنه الناحل.. وبالذات ما يعانيه من قصور في وظيفة الكبد هذا العضو الحيوي الذي لا تستقيم الحياة باختلاله.. مما يعني تراكمات ومضاعفات صحية من جراء عملية التنقية ناهيك عن صعوبة اعداده لأي فرصة مستقبلية لزراعة كلية لديه.. وفي صباح احد الأيام كانت ( ب) تجهز المريض ( خ) هذا لعملية التنقية التي تكرر له ثلاث مرات اسبوعيا.. وفجأة تداعت وظائف الحيوية وانخفض ضغطه بشكل حاد.. وراح في غيبوبة.. استدعي الاطباء. اخصائي الكلي.. واخصائي الكبد.. وتم الأمر بنقله توا إلى غرفة العناية المركزة. وهناك تم وصل جسده بالاسلاك والتوابض الخارجة من اجهزة الاستشعار الا ان حالته وصلت الى مهاوي الخطر ، وبدا وكأنه يستعد للرحلة الأبدية. وهذا ما بدا للأطباء أيضا موقنين بأنهم قدموا أقصى ماهو متاح لديهم علما وجهداً بانتظار ما نمليه الارادة الإلهية.. الا ان صاحبتنا ( ب) والتي لا تسمح لها طبيعتها المتفانية وإيمانها الراسخ بالتفاني فوق الواجب وان الله يكافيء المجدين المثابرين بالقبول بالأمور الواقعة وهي ترى جسدا تلهث فيه الحياة متشبئاً بكل رمق ومنبعثا مع كل زفرة: تتسرب منه الصحة وهي بلا دور الى ان يكتب الله أمرا قد قضاه.. فطلبت من رؤسائها السماح لها بالاعتناء بالمريض المنهك.. وتفرغا لعدة أيام استثنائية لتقوم على رعايته ومتابعته يوما بيوم.. وساعة بساعة.. ولحظة بلحظة... وأشرفت مباشرة على اعطائه العلاج. ومراقبة الاجهزة.. واطعامه بيدها وبدأ بعناية الله بالتحسن رويداً رويداً. وبدأ نبض الحياة يعاود التدفق من جديد. ودخل في وعيه الاحساس بما يحيط به.. وفتح عينيه بعد غياب طويل على الوجه السمح الصامد. وقد قال في الرجل فيما بعد.. عندما رأيت (ب) وادركت ما عملت من اجلي بحثت في كل ما مضى من حياتي علني اجد عملاً عظيماً قمت به ليكافاني الله عليه بهذا الجزاء العظيم » ، لقد مضت أيام ارتفعت بها معنويته وبدأ يطلب أكلا خاصا.. وعندما لم يتذوقه في وجبة المستشفى صارت ( ب) تعده له في بيتها وبنفسها مراعية فيه الحمية الصحية الموصوفة له وأقبل عليه برغبة سعيدة.. انعكست في الايام القادمة على ارتواء بشرته وزيادة وزنه وخرج ( خ) من العناية المركزة.. وعاش صحيحا لسنوات مع التنقية الدورية.. والآن يجهز لاستقبال زراعة كلية متى ما توافرت ومضت ( ب) في اعمالها المعتادة بدون ان تبوح ببنت شفة عما عملت.. ولم يعلم أحد قصتها الا من خلال مريضها ( خ) الذي وصل الأمر لديه بأن حمد لله الظروف التي اطلعته على مقدار ما يمكن ان يعمل الانسان لاخيه الانسان.. أما ( ب) فقد بدات جذلى وتصفح علائم البشر من ملامحها الطيبة. وكانها نالت جائزة كبرى.
 
هذه قصة حقيقية توالت احداثها في احد مستشفياتنا الكبيرة وذهبت مثلاً في ذلك المستشفى.. عند المرضى. والطواقم الطبية والاطباء.. وقد توالت أحداث بذلت فيها ( ب) أمورا وازت وجاوزت ماقامت به مع ( خ) وكأن الله مدها بطاقة دفاقة لمسح الألم عن الوجوه الواجفة والأبدان القلقة.
 
وسمعت الآن ان القلب الكبير بدأ يغص بطاقاته.. وصار فيض المرحمة يدق ضعيفا متوانيا لضعف في صماماته.. وهي تسعى ربما للمرة الأولى أن تحصل على علاج في احد مستشفياتنا المتخصصة.. وأدعو الله ان يهيئ لها ذلك.. وأن يهييء لها من يقوم بعنايتها.. كما فعلت بلا منة العشرات من المرضى من قبل.. وان يضفي عليها من نعمائه لتقوم بمواصلة أعمالها مع المواج المرضى القادمين.