(الأنا) للبيع
سنة النشر : 03/06/1994
الصحيفة : عكاظ
أذكر أنني كتبتُ مقالا في مجلة الشرق منذ سنوات عن الشخصيات التي نتلمسها يومياً لكي تمرر أمور حياتنا اليومية معاشيا واجتماعيا وإن لم تعاكسني الذاكرة المجهدة فإن ذاك الموضوع كان بعنوان « من أنت.. ما أنت في تحدثت فيه عن ضغوط الحياة الحديثة ومتطلبات البقاء والتفوق بها يجعلك تخرج من نفسك لتدخل بها شخصيات او اقنعة لتلج باباً عملياً ، أو اترضي اشخاصاً مؤثرين على مسارك اللحظي أو امتداداً إلى مالك المستقبلي.. وسردت أمثالاً كثيرة.. منها ذلك البائع الذي يعمل في مجال الأدوات الرياضية وتراه يلج في أحاديث الرياضة ومناسباتها وقوانين ألعابها والتصاقها في مراحل حياته بينما في داخله يعرف أنه يقتحم ميداناً لا يوده ولا يمت اليه ويختلس النظر الى قدمه المسطحة FLAT) ( FOOT. وتتعدد الأقنعة والشخصيات لكل مجال ولكل مناسبة.. بل تتعدد للفرد الواحد في اليوم الواحد فهي وأنت تراه يلوك مفردات تختنق بها حنجرته لكونه مع مجموعة من المثقفين لا يدرك حتى لها موضعاً ويعبث في ذات الليلة مع العابثين.. وتتفاوت هذه المقدرة المتلونة من التفاهة الممجوجة الى التلبس المتقن.. وفي نهاية اليوم تهجع تلك الشخصية لا تعرف من ذاتها.. وتعرف حتما ماهي!.. حيث يبقى المؤكد حجم الجمجمة الذي لا يتغير ومقاس القدم الذي لا يتبدل!
وبعيداً عن مبادىء الجمال الأخلاقي.. وثبات الصفات التي اتصفت بها الدعوات الرومانسية عرف العالم منذ القرن التاسع عشر عندما سادت في أوروبا الايديولوجيا الصناعية في القرن الثامن عشر فهيمنت السلطة الاجتماعية الأبوية كما يحلو لعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا والتي نشأت في انعكاسة كاملة ضد السلطة الدينية في أوروبا المسيحية والتي كانت تحنو وتقسو بعاطفة مقدسة ، فيها دوما الاعتبار للغفران ومسح الخطيئة والغيبوبة في الاستقطاب الكنسي ممثلة في القسيس الذي يمثل المحبة غير المشروطة ( رغم أن في القمة البيروقراطية الدينية يوجد البابا السلطوي المتحكم).. وترتكز الايديولوجيا الصناعية في مجافاة سافرة للسلطة اللاهوتية على أسس المصلحة الذاتية ، إذكاء الشراسة التنافسية ووهن العلائق البشرية. إذا كانت هناك أي قداسة فهي المتفوق. والربح ، والقوة. ومع ذلك صهرت في إطارات قانونية وتشريعية لوضع حدود الحرية الفردية وإن كانت قد بدأت منذ نداءات الاصلاحيين اجتماعيين دينيين أو فلاسفة بدءاً من الثورة اللوثرية).. لذا تغير جذريا وضع « الأنا » فبعد أن كانت رقماً جماعياً واتساقاً دينياً تتبع المؤشر الخارجي ولا تنبع من الدافع الداخلي.. صارت من أجل تحقيق ما يمكن تحقيقه من مكاسب ضمن الايديولوجيا الصناعية تخلق لنفسها تميزاً جاذباً للفت سوق العمل أو القائمين على سوق العمل.. وقنع الفرد بأن ذاته سلعة في هذا السوق التي لا تعمل على قطبي العرض والطلب بل على الترويج والتسويق لذاته.. ونرى واقعاً لن نغمض وعينا عنه هو أن الشخصية الانسانية باتت سلعة حاضرة ورائجة في العالم الصناعي والتجاري تنطبق عليها آلية السوق وحجم المنفعة في الإقبال والتقييم والثبات مدى الاستخدام).. ولنتلمس مثل هذا الواقع الآن فماذا تجد ؟.. ستخرج بملاحظة أكيدة أن المعيار ( كيف تسوق شخصيتك) تأتي دائماً في الدائرة الكبرى الى أن تتصاغر الدوائر الى الخبرات والكفاءات التي يتشابه بها ( أو يحملها الكثيرون والا ما الذي يجعل الوظيفة لواحد من اثنين يتمتعان بنفس الخبرات ويحملان ذات الحجم والمقاييس من الشهادات بالطبع.. بيع الشخصية ؟ ونحن نتكلم عن بيع الشخصية المباشر حيث تزيح الستار عن جانبك الطموح اذا كان الطموح الهدف.. أو تدير جانبك الاقتحامي إذا كانت المنافسة هي المعاناة.. أو تصغر خدك وتصفيفة شعرك ، إن كان لك خد متفرج او ملكت شيئاً من الشعر على سطح جمجمتك!!) إن تطلب العمل هيافة وأناقة وتزلّفاً.. أو في اشياء أسمى كتجلي عبقرية علمية لمعهد بحوث ، أو هيامك في الإخلاص وأنت مقدم على الزواج ودعني اعترف لك بحقيقة قد يلومني عليها القائمون على صناعتنا الصحية وحفظ أجسادنا مصانة عاملة. معشر الأطباء.. فإن الكثير منهم الذين وهم يجتازون الفحوص الكأداء للترقي في امتحانات الزمالات والجمعيات الطلبية يعتمدون بشكل مؤثر على الإبهار الشخصي على لجنة الممتحنين. وقد يتعثر ذلك الخجول الذي وضع في قلبه كتاب هاريسون..
وقبل أن أغلق ما فتحته فإنني أدوك إلى تجميل ذاتك ديناً وعالماً.. واكتشف في مكامنك الغريبة والقصية داخل نفسك ما الذي وهبه الله لك أكثر من الآخرين..