الشجرة الأم .. كسرت خاطري
سنة النشر : 29/04/2013
الصحيفة : الاقتصادية
تأملات الإثنين .. في رحلة للشمال وكنت مدعوًّا، تنقلتُ بواسطة من معي بين الأماكن عبر الطريق الثعباني الملتوي الشاحب الذي يربط مراكز الشمال.. ورأيت شيئًا أوقفني، في وسط البرية المفتوحة الجرداء.
كانت شجرةُ "أثلٍ" كبيرة مرتفعة ومنتشرة أغصانها حتى إنها تمسح سطح التربة بثقل هياكل أخشاب تلك الأغصان. وكسرتْ خاطري فعلًا، شجرةٌ عجوزٌ وحيدةٌ في القفرِ لا أنيسَ ولا ونيس، وتبقى كسفينةٍ خشبيةٍ قديمة ثابتة في بحر راكد بلا جُزرٍ، غادرته كل المراكبِ والسفن. طلبت من صاحبَي أن أترجّل. أوقفا السيارة داخل الكتف الترابي، وتوجهتُ للشجرة التي سمّيتها "الشجرة الأم".. وجلست تحت فيئِها، وكانت الأوراقُ مع أي هبّة ريح تقترب لبشرتي وكأنها فرحة ترحب بالروح الغريبة، فقد انقطعتْ عن الأرواح طويلًا.
أحسستُ بارتباطٍ قويٍّ مع الشجرة، والتقطتُ لها صورًا وهي تقف رغم السنوات والعقود شامخةً بإرادة الاستمرار في الحياة، وتأدية وظائفها الحيوية على الأرض، كما زرع اللهُ في أصل تكوينها.. أحضر الأخوَان الشاي في ترامس مقفلة، وفتحوا أكياس الخبز بالجبن، وتحت الشجرة الأم تناولت واحدة من أجمل الوجبات في حياتي، باطمئنان، بسعادة، بارتياح، فقد كانت الشجرةُ الأم تحدب علينا جميعًا وتحرسنا، تكاد تضمّنا بين فروعها الضخمة وجذعها الكبير.. ضحكنا وأظنها ضحكت معنا. أخرجني صاحباي من سدْرَتي الرائقة، وهما يقولان: "فلنذهب، يبدو أنك ستبكي.." ووَقَرَ شعورٌ في أعماقي أن "الشجرةَ الأم" تبكي لوداعنا.
ثم بالسيارة صرتُ أتحدث بلا انقطاع عن الشجرة الأم، عن قوتها، عن ثباتها، عن شجاعتها بوقوفها وحيدةً في الوحشة المطبقة، وتظل قويةً وخضراء وعالية، وكيف أن الشجرة الأم لها قلبٌ يدق في أنساغها وفي أوراقها وفي أغصانها، فهي تستقبل في حضنها عصافيرَ السماء، وتحت ظلها تستفيء هوّام الفـَلا، ودوّاب القِفار، كما تستضيف مَن هم مثلنا من المتنزهين والعابرين.. ثم كلنا، عصافير وهوام ودواب وبشر، نتركها ونذهب لحالنا وهي باقية، وكأنها تقول: "ترحلوا، أنا هنا باقية في انتظاركم".
وصلنا لبيت الرجل الذي ألح علينا بتناول العشاء لديه وكان أب صاحبَي الصديقين. وفي الركن سلمنا على شيخ وقور بغترة رمادية وعقال أبيض سميك عظيم اللحية البيضاء، ووضح أنه أبعد في رحلة الزمن، هو جدّهما. قام صاحباي بروحٍ مرحةٍ يحكيان لأبيهما وللجدّ الكبير المنكفئ الهيكل، البارق العينين بالذكاء والذكريات، عن كيف أني تعلقتُ عاطفيا بشجرة "أثل" في مكانٍ منسيٍّ في البرّ المفتوح، وكيف أني لم أكد أقوم مستنداً ومسترخياً على جذعِها، وتناولنا إفطاراً متأخراً تحت ظلها، وأني سمّيتها "الشجرة الأم". إلا أن الشيخَ لم يشاركهم الضحك، وقال: "إنها الدليل الباقي على خطأ كبير عملناه بحق أنفسنا".
وهنا عرفتُ أن في ضمير الرجل الكبير شيئاً يقلقه، أصغيتُ بكل خليّةٍ تسمع وهو يتابع بصوت عميق ينبع من داخل سحيق: "المنطقة التي تتكلمون عنها كانت غابة من أشجار الأثل، وكانت محطة قوافل، وحولها نبع ماء معروف، والناس يسافرون إلى الأردن وفلسطين والشام ويرتاحون بها ويحتطبون، فسمّاها الشوام "الراحة"، وسمّوها العقيلات وهم مجموعات رحالة من القصيم بـ "المنْفَهْ" وكنا صغاراً نركب الدوابَّ ثم نذهب هناك نتراكض في أنحائها ونقابل التجار، ويعطوننا أحياناً من حلواهم.. ". ويتابع الشيخ: "أنا لم أعِ جيداً تلك (المشجرة) الكبيرة، كنت صغيراً أظن عمري كان أربع سنوات، ثم إني الآن اجتزت قرناً من عمري ولم تعد الذاكرة واضحة، ولا أدري كيف ومتى اختفتْ الغابة، ولكنها كانت تتقلص أول ما بدأ التابلاين، وولدي هذا "أي أب الرجلين" تقاعد من "أرامكو" من سنين طوال، كان شاهداً على مراحل الاختفاء.. ومع التابلاين ومع الثروة الجديدة قامت المزارع الجديدة ومحاور القمح والأعلاف، بل يقول لي عثمان - أي حفيده -: إننا صرنا مثل الأجانب نبيع الزهور والكرز من برِّنا"، وضحك ضحكة مكتومة لم أفكّك شفرتها، أكانت ساخرة؟ أم متحسّرة؟ أم متعجبة؟ ثم سكـَت.
واستدركتُ الشيخَ الكبيرَ: "ثم" أجابني: "جنينا على أهل شجرتك الأم، ونضب عنهم الماء!". في الليل نكسنا إلى مقرِّنا، ومررنا بالطريق نفسه، ولم أتمكن من مشاهدة ولا وداع "الشجرة الأم" فقد كانت قد تلحفت الظلام.. ولا أدري لماذا مغصني قلبي، وشعرت أنها تبكي في وحدتها وقد رحل - كما قال الشيخُ.. "أهلـُها!"