سنة النشر : 11/04/2009 الصحيفة : الاقتصادية
كان أمراً جميلا أن ألتقي صديقي المتنقل، الشاعر، والديبلوماسي، والوزير الآن، الدكتور عبد العزيز خوجة. والدكتور خوجة بكل مهمةٍ يتسلمها تقول لنفسك، وأظن أنها تدور في داخل ذاته، إن هذه هي المهمة الأهمّ، والأكثر دقة، وصعوبة، وتداعيات.. كان هذا في موسكو، وفي تركيا، وفي المغرب، وفي بيروت.. والآن في الإعلام.
والدكتور خوجة ليس مؤشراً واضحاً لمدى أهمية وحجم الهموم، فله وجهٌ كالقناع الذي لا يتغير مهما كانت الظروف، إنه ذلك الوجه اللامع الباسمُ، والعينان الطيبتان، وبساطة الشخصية، وسهولة التواصل مع الآخرين في جانبهم البشري. وعذوبة منطلقة في الحديث.
وأدركت بحواسي في معرفةٍ لسنوات مع الدكتور خوجة بأنه كمعادلةٍ كيميائية من العقل، والروحانية، وترانيم العاطفة.. وأعي الصفةَ الأخيرة بدقة، فلم أقل الشعرَ ولا الشاعر، إنه تعدى ذلك بأحاسيس الحقيقة، لا حقيقة الأحاسيس. وفي هذا، فهو ليس مرآة للظروف، إنه مثل صورةٍ زاهيةٍ ثابتةٍ، تخفي ما يعتمل وراءها من أحداث. ولا أدري حقيقةً هل هذه الصفة بالذات هي شعْرُ هرقل سر جبروت قوته، أم كعب أخيل ذلك المدخل الهش للولوج إلى أعماقِه.
وتجربة الرجل الذي حمل حقيبة الإعلام المكتظة خبرة تختلف عن الخبرات، فهي أضافت نكهة جديدة فوق ماديةٍ للمعارف عبراختلاف المهام، وتنوع الثقافات، وتلون الأثنيات، وتفاقم الظروف، وصروف السياسة، وواجه مكاشفة حقيقية بازغة مع البشر لما يكونون شياطين في صورتهم الخام، ولما يكونون متكسرين ضعافا أمام عتبات الصروف والمصائر والأقدار. وأنا لا أنقل لك مسرحية من مشاهد "دانتي الألغيري"، أو من خيالات الدينونةِ عند المعرّي، إنها حقائقٌ عاشها هذا الرجل، ولما كان الكثيرون يعكسونها بالصورة المنقولة المادية في تجاربهم وخبراتهم فتؤرشـَف معلوماتٍ للرجوع إليها، فبتكوين خوجة الذهني والروحي أضاف نكهة الخبرة الروحية التي تعطي شفافية لما وراء المشاهِد لقراءة النزعة الإنسانية في مراحل تكوينها الأولى، فلا تكون المعلوماتُ إضباراتُ إرشيف، بل معلومات تحمل مشاعر المكان والزمان وتعَقـُّد المسيرة البشرية في الصعاب والأزمات.. تماما كأن ترجع لتعيش لحظات من الماضي وأنت في لحظات الحاضر لذا فأنت مطالبٌ بفك خبرة الرجل الروحية وهي المفتاحُ إلى أسِّ مفاهيمه.
وسيكون للإعلام نقلةٌ برأيي، وإن لم تتم بسنوات الفترة، فهي تجري بمضمار الإنجاز، وتخرج من مقارِّ الروح والضمير، لأن الرجلَ مثل النجوم الحمراء تبتلع نفسَها بسكونٍ كوني، ولكنها تكون مصدرا لأجرام ونجوم وسيارات جديدة ليستمر الكون.
عندما زرته في مكتبه راجعتُ معه ما أرى أنه ضروري من مجال رؤيتي الحبيسة، ولمستُ أن الرجلَ عازمٌ للخروج للعموم، ويريد فعلا أن يصهر نتاج العقول المختلفة المشارب والنهج والمبادئ والأهداف ليخرج بمزيج، وهو الكيميائي، يرضي الذائقة العامة في مرحلتها الأولى، ثم يبدأ بمرحلة الصعود بها لآفاقٍ جديدة. ولن يستطيع وحده أن يعمل ذلك، ولا بموظفيه في الوزارة، إنه رجلُ إعلامٍ وفكر وروح ولا تكتمل الكينونة لتتطلـِّع كهذا إلا بالخليط البشري بأنواعه. وكنت ما زلتُ موجوداً لما دخل علينا الرجل المنفتح العقل والثقافة المؤطرة بسعة التجربة الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك، وأخذ يقول رأيَه بانسيابٍ ومباشرةٍ صريحةٍ بما استشفه من أخطاءٍ صارت، وما وصل إليه من اقتراحاتٍ يجب أن تصير، والرجلُ الوزير يصغي، ثم تشعر وكأنه يريد التقاط الكلامَ فيعلق الكلامُ، فقد قرّر الوزنُ المعياري الإنساني الروحي داخله بأن يواصل الإصغاء.
ووجدتُ أن من مكامن القوة في خوجة هي ابتسامة مفتوحة بذات القدر للجميع، مع مجاملةٍ عطرية الحديث للجميع، تتوجّها القدرةُ الموهوبةُ في الإصغاء. والصينيون يقولون: الإصغاءُ يحيل القلبَ إلى زهرة، وخوجة "يترنـّم":
قد سالَ النهرُ بأضلـُعِهِ فانقلبَ الصخرُ إلى زهرةْ
ونكمل الإثنين القادم صلبَ المواضيع.. بعد الإذن من وزارةِ الإعلام!