سنة النشر : 23/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. لي مقالاتٌ متناثرةٌ عمن أسميهم "أصدقاء الفضاء"، الذين أجاورهم مصادفةً على متن الناقلات الجوية، كثيرٌ منهم نزلتُ من الطائرة ليبقى تأثيرُهم في حياتي مستمراً.
وفي آخر رحلةٍ لي وصلت لمقعدي، وكان في الكرسي بجانبي رجلٌ شديدُ السمرةِ والحمرةِ معاً، بشعرٍ كثيفٍ أبيض، ثم ينزل رمادياً مشوبا بالفضةِ عند صِدْغَيه، وله حاجبان كثيفان لافتان وكأنهما مظلتان للعينين.. أما العينان فهما أول ما يرسم شخصية الرجل، واسعتان جاحظتان فوق العادة، بذلك اللون النادر والمنتشر في شبهِ القارة الهندية، لونُ الذهبِ المائع في العسل القاتم.. وما يحيطهما كان مشوباً بالحمرة، حتى يمكنُ عدّ الشرايين التي تنسج شبكة حول العين. ينتهي وجهُه بفكٍّ عريض، ولحيةٍ كثيفة رمادية منطفئة خفيفة، مثل الريش الذي تُحشى به الوسادات، وبقايا شاربٍ متوارٍ تحت أنفٍ عملاق. من الصعب أن تقول أن شكله العام مُعادٍ، بل هناك مسحة واضحة من الجلالِ والصرامةِ والوسامةِ رغم ثقل السنين..
وجدته يقرأ كتاباً بحروف غريبة، وأنا أتخلص من متعلقاتي ولم أتساو على مقعدي بعد، خاطبته مفاجئاً إياه لأكسرَ جليدَ الغربة: "أتقرأ بالسنسكريتية؟"، فرفع حاجبيْه العظيمين، وعيناه الواسعتان رغم أحمرارهما أعطيتاني شعاعاً بالألفةِ والترحيب، وسألني بإنجليزيةٍ فخمة: "آر يو سَبْ- كونتننتال؟" يعني، يتساءل إن كنت من شبه القارة، ويتعارف الهنودُ الكبار على تسمية الهند والباكستان والبنجال بشبه القارة، وكأنها دوَلٌ لم تنفصل عن بعضها. ورددت عليه ضاحكا: "لا أنا سعودي، ولكنك تستغرب كيف عرفتُ الحرفَ السنسكريتي (اللغة الهندية الأثرية) لا تتعجب، فمعي كتابٌ حول نشوء اللغات لعالم لغوي شاب من بريطانيا، ويصور الحروفَ القديمة، وكانت الصفحة التي أقرأ قبل دخولي الطائرة عن السنسكريتية"..
-"هاه، لا عجب!"، ردّ علي وهو يحك لحيته الناعمة، وبانَتْ ساعة "كارتيير" فارهة.
أخذني الحديث مع صديق الفضاء "ساتيش ماثيو"، هندي الأصل كاثوليكي، وعرفتُ أنه إنجليزي بالتجنس، وكان عائدا للهند لأول مرة منذ أربعين عاما، ليحضر مراسم والدته التي لم تره منذ غادر، أبداً. على أن حكاية هجرته لبريطانيا العظمى (كما يصرّ أن يسميها) قصةٌ تسلبُ الشعورَ، ولكن ليس هذا وقتها. ووجدتها فرصة أن أسأله كيف وجد الهندَ بعد أربعة عقودٍ من الزمان؟ .. فتحدث بروفسور تاريخ الحضارات في جامعة أكسفورد العريقة، قائلا:
".. أول انطباع أن الهندَ ليست الهند الوردية التي نقرأ عنها أنت وأنا في الصحف الأجنبية، هناك نهضةٌ ضارة جدا، حيث إن الصناعة الرقمية، والأدوية، والمعدات الثقيلة تزدهر بطلب من العالم النظيف (يقصد أمريكا وأوروبا واليابان، ويشير إليهم بالمحور النظيف أحيانا - غريبةٌ اصطلاحات البروفيسور ساتيش، ولكنه عالمُ أجناس أيضا!) ويتابع: "فالنتيجة أننا كوَّنَا عناصر طبخة لسقوط الهند نهائياً، فكما لاحظتُ أن تلك النهضة خلقتْ هوةً لن تـُردَم بين القطرات القليلة الغنية في محيطٍ كامل من الفقر المقحط (ياللتصوير!)، أضف إلى ذلك إلى مسحٍ غبي وميتٍ للغابات والدورة الحيوية بها، وتلوث مصادر المياه العذبة بشكل لا إنساني، هل تدري عن نهر "الغانج" المقدس عند الهندوس أن في قاعِهِ أكثر أعداد الجثث المتعفنة في أي قاع نهري في كل الدنيا، ثم صار مردما مائيا لكل سموم صناعات الأدوية، وهذه كارثة لحالها. والهواء لم يعد هواءً، وإنما رطوبة لزجة سامة، مؤشراتٌ تُنبئ عن انهيارٍ للبيئة. "ثم يدير إليّ عينيه الواسعتين ولاحظت أنهما محاطتان برموش كثيفة، مقوسة وأنيقة تحلم بهما كل امرأة.. ويمضي متابعاً: "إني أتساءل ماذا فعل الهنودُ بالهند، وبالذات هؤلاء الأجيال فارغو الثقافةِ والانتماء، فقد كان التأثيرُ عنيفاً ومحبَطاً على القيَم الهنديةِ التي كانت يوما مثل الأساطير، فتقلصتْ العائلاتُ الكبيرة، وتناثر أفرادُها أبديّا، والشبابُ لا يشعر بأي فخرٍ بحضارة أمهم الهند، بل إن هناك نفوراً واحتقاراً لكل ما هو قديمٍ وعريق.. إنها نهاية دورةِ الأمم، ثم يضحكُ بعمقٍ مكتومٍ: "أنا لم أقل هذا، عالمكم العربي "ابن خلدون" هو الذي قال!" ثم كانت مفاجأة بروفسور التاريخ هذه النتيجة: "بريطانيا العظمى وغيرها من المحور النظيف عميقةُ في الارتباطِ بالتقاليد الخاصة رغم الحداثة، وجيلٌ بعد جيلٍ يحاولون صيانة تاريخ دولِهم.." ثم وهو يضع نظارته كأنه يريد أن يقطع الحديثَ ويعود لكتابه السنسكريتي، وبعد زفرةٍ هواء من داخلِ داخلِهِ، ينظر إلى سقف الطائرة بعينيه العسليتين المطليّتين بالذهب المحروق، ليتهدّج: "كان هناك زمانٌ عندما لم يكن هناك ترفٌ، الحياةُ كانت أصفى، عندما كان الناسُ قيمتهم الوحيدة أنهم.. ناس!"
ثم وكأنه يومئ برسالةٍ ختامية لي: "وأنتم في بلادكم أما زلتم ناساً.. أم لا؟ فإن كنتم ما زلتم، فاحذروا أن يأتي وقتٌ تفقدون أهمَّ الأهم: إنسانية الإنسان".
وغاص البروفسور في كتابه..
وقضيتُ الوقتَ وأنا أتصوّر مجتمعنا، وأتساءل. "هل ما زلنا؟!"