سنة النشر : 07/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. ذو الضميرِ اليقظِ لن يندم على شيءٍ قدر ندَمِهِ على أنه في ظرفٍ ما، في مكانٍ ما، لم يكن عادلاً.
ولا أجد أشدّ خطراً في هذا الندم والتأنيبِ من موقع الكاتب، وهو يتسلم شكاوى الناس، أو وهو ينتقد وضعاً ما.. فعليه أن يزن الأمورَ، فلا يكتمُ صوتَ الشاكي، ولا يغبنُ حقَّ من وقعَتْ عليه الشكوى..
ولطالما دار هذا االاستنكارُ من قِبـَلِ من وقعَ عليه النقد، وهو: "لماذا يا أخي لم تستفسر عن الموضوع عندنا قبل أن تنشر النقدَ أو الشكوى؟" وهو سؤالٌ يبدو أنه منطقيٌ جدا، ومن دواعي العدل وبديهياته.. إلا إذا عرفنا شيئاً آخر، وهو أنّ الناقدَ إنما رأى أو سمع خرْقاً صار على الواقع، وهو ليس بالطبيعةِ والطبعِ مكلـَّفاً بالرجوع إلى الجهةِ الأخرى التي كان يجب أن يكون عملها كما تمليه مسؤولياتها المكتوبة.. كما أن من حق صاحب الشكوى أو النقد أن يظهرَ صوته للعموم أيضاً. ولكن، وهنا أمرٌ دقيق جداً، على الكاتب أن يكون مصفاةً عادلة لغربلةِ الشكاوى، فلا ينشر أي رسالة تأتيه وفيها كيدٌ واضح، أو غضبٌ متأجِّجٌ يُعمي عن طريق العدل، أو فيما يعتقد أنه الإجراء الصحيح الذي تمّتْ الشكوى حوله، على أن يمرَّ هذا في ضمير الكاتبِ بلا ميْلٍ، ولا غرَضٍ خفيٍّ أو ظاهر.
وعندما يتحققُ الشرطُ الذي ذكرناهُ سابقاً فعلى الكاتب أيضا حقٌ آخر تجاه من وقعتْ عليه الشكوى بأن يبين وجهة نظرِه بنقلها، أو أن يفسحَ المجالَ في مكانه لتوضيحٍ يعده ذاك الطرف لتوضيح وجهة رأيه، وملابسات ظروفه في المشكلةِ المُعلنة، فيتم إعلان وإشهار الرأيَيْن، وهنا في رأيي تكتملُ صفةَ العدل.. فهنا طرفٌ يشتكي، وهنا طرفٌ يرد، وهناك مجتمعٌ يرى ويسمعُ ويحلل ويحكم.
ونجد الشقاقَ يحصل، وتضيع الطاسة كما في أمثالنا، أي يضيع الموضوعُ الذي من أجله صار النقدُ، ليكون هو الضحية، عندما تزيد جرعة النقدِ إلى الغضب والإغضاب، أو الاستخفاف والاستهزاء أو بَرْم الأحكام فهنا يخطئ الناقدُ خطأً شديداً ويجب أن يعود للرشد في مقابلة الأشياءِ وحلها، فالمقصودُ ليس إحراج المسؤول لغرضٍ شخصي، بل يجب أن يكون الغرضُ إيضاح الخطأ للمسؤول، ومعه شيءٌ آخر أكثر أهمية وهو أن تعطيه فسحة الشعور والاعتبار للعودةِ عن الخطأ، ولكنك متى صفـَقـْتَ البابَ في وجهه واتهمته وأغضبته فسيردّ بالمثل .. وتضيع الطاسة.
وعلى المسؤول أن يتروى أيضاً في الردّ فلا ينساق للغضبِ حتى لو وَقـَر في ذهنِه أن الناقدَ كان يقصدُ المسَّ بهِ وإحراجه، فإن كان ذاك فعلاً المقصودُ من الناقد فإن المسؤولَ عندما ينساق وراء الغضبِ يحقق للناقدِ غرضَهُ ضدّه بنفسِه، فلهُ أن يكتسي بأدبِ الوظيفةِ، وكرامة النفس وعلوِّ الأخلاق، واعتبار الذات فلا يسفّ ولا يغضب ولا يتهم، ولما يخاطب المسؤولُ الكاتبَ الناقدَ بأدبٍ وحرص وعناية فإنه إن لم يكسبه فسيكسب هذا الطرفَ الثالث الذي هو آلاف من الناس، أي المجتمع.
ظهر هنا مقالُ السبت الماضي بعنوان "المبتعثون والمظلة"، عُرضتْ فيه ثلاثُ رسائل من مبتعثين، وأحدثت الرسالة الأولى ضجة كافية، وفيها يقول مرسل الرسالة إن الطلابَ السعوديين في استراليا ظهر منهم ما يدل على عدم الجديةِ في التحصيل الأكاديمي والميل لشلليات بأنواعها في غياب من الملحقية الثقافية.. وصار أن هاتفني الدكتور "عبد الله بن عبد العزيز الموسى" وهو اسمٌ يعرفه كل مبتعثٍ خارج البلاد، وبعد توطئةٍ لطيفة أشار برأيهِ إلى ما كُتِب، وأوضح جهودَ الملحقية، وكنتُ حازماً أعصابي مترقـِّبا أن يقول لي لماذا لم تتصل بنا لتعرف قبل النشر، وهو ما كان سيربك توقعاتي، ولكن الدكتور الموسى أكد بعبارة راقيةٍ أن النقدَ واجب متى أتي بلا غرض مسبق ومتى كان النقدُ مفتوحا بعدل وحيادٍ للجهتين، فاسترختْ الحزمة العصبية عندي، وتفتح عقلي ومنطقي على نقاش واقعيّ مع الدكتور الموسى، وشرح اهتمام الوزارة بمتابعة التحصيل، وأن بعضاً من المبتعثين قـُطع ابتعاثُهم لسوء التحصيل أو السلوكِ أو كليهما معا، وهذا من واقع المتابعة، وأشار إلى بريدٍ مفتوحٍ بالوزارة يتلقى كل الشكاوى والاقتراحات ودعاني لزيارته..
ولم يكن هذا كافياً..
- أنا الدكتورُ "علي محمد البشري" من الملحقيةِ الثقافيةِ في أستراليا.
وفوجئت بأن الاهتمامَ بالموضوع لم يقف عند الدكتور "الموسى"، الذي يمثلُ بكفايةٍ شؤونَ الابتعاث في الوزارة، فإذا بالملحق الثقافي يتصل ويشرح ويسهب، والذي لفتني أنه لم يكن ينافحُ عن نفسِهِ ولا عن عمل ملحقيته في أستراليا وفي نيوزلندا، كانت حماستـُه تمطر على الطلبةِ مدافعاً عنهم، وقال أن الطلبة السعوديين مفخرة لسمعة البلاد، وتكلم عن إنجازاتهم، وبرغم أن القارة الأسترالية شاسعة وملحق بها نيوزلندا إلا أن هذا لا يعتبره عذراً لعدم متابعة طلابه، وأشار بفخرٍ لإنجازات طلبة سعوديين، وعن نوادي الطلبة بالجامعات الأسترالية، وتواصل الأستراليين معهم. والدكتور علي تجنَّبَ أن يُعِدّ ردّاً على المقال، مفسِّراً، وهو صادق، أن أي ردٍّ من مسؤولٍ سيُصَنـَّف أنه غير محايد، ورأى أن تكون مهمتي أن أتأكد بعيدا عنه.. من الطلبةِ أنفسهم.
وأقول لصديقي الدكتور البشري، وتسعدني هذه الصداقة.. إني سأفعل!