سنة النشر : 14/02/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. بدأ عامُ 2009م غارقاً في ظلام حلكةٍ اقتصادية، متسلماً الليلَ من السنةِ التي انصرَمَتْ، والتي بدأتْ واعدة منتعشة، وزاد فيها الطلبُ الأرضيُ على سِلـَع الأرضِ، ومنتجاتِ مصانع الأرض.
ثم فجأةً، تتزحلق مركبةُ الاقتصادِ العالمي في الأشهرِ الأخيرةِ من العام الفائت، وتتزحلق.. ثم إنها تحاولُ التعلـُّقَ بأي شيءٍ ناتئ من سفح الهاوية ولكنها تجذب النواتئ معها لرحلةِ الوقوع. ثم امتدتْ أيادي المنقذين بالحبال، ورمَوا أنشوطةً وراء أنشوطةٍ، فإذا الأنشوطةُ لا تصيب، أو أنها تجذبُ رامي الأنشوطةِ للقفزِ الحرِّ للسحيق.. ولا يرى أحدٌ قاعاً لهوّةٍ ما زال السقوطُ فيها متواصلاً. وتسلم العامُ الجديدُ ليلاً يزدادُ ظـُلمَةً، والساعاتُ تمرّ خلفَ الساعاتِ ولا فجرَ قريب.
إنها الأزمةُ الأولى في ذاكرةِ البشرية تحارُ فيها عقولُ أهل السياسةِ والاقتصادِ والمال والإدارةِ وضابطي الإيقاع المالي الكوني، فلا تخرجُ خطةٌ إلا وتفشل قبل البدءِ بالتطبيق. ويحار الناسُ الذين فوق والذين تحت.. إلى من تـُسَلـَّم الأموالُ الإنعاشية؟ فحتى الآن الذي حصل أن الأموالَ بالتريليونات تـُمنـَحُ لمسبِّبِ المشكلةِ: البنوك. والبنوكُ في أفضلِ الحالاتِ المستنقعُ النهري الذي خرجت منه أفعى "الأناكوندا" لتأكل كل ما تلتقيه بنهمٍ وتضطرمُ بعد كلّ الـْتِهَامٍ وحشية وجوعاً.
لأولِ مرة تجد أن ليسَ هناك خطة موضوعة، بَلـْه أن تكون مضمونة، لإنقاذِ عربة الاقتصاد الكوني قبل أن ترتطمَ بالقاع. لأول مرّةٍ أرى الناسَ عن قـُربٍ أو عن بُعدٍ يضربون في الودَع، ويرمون حجرَ الحظ.. حيث لم يعُد ممكِنا استخدام أدوات الخطط في الغدِ، ولا بعده، فلا خطط في الغموض، ولا خطط تعيش في تيارٍ سريعٍ ومتلاطمٍ من المفاجآت.
ثم يقولُ المانحون للبنوك: "خُذي الأموالَ وأقرضي الناسَ والمشاريع" فأجدُ أني أضحك عميقاً: كيف يعطونَ المالَ لمن أضاعَه في المقام الأول؟ ثم كيف يكررون مشهد المستنقع الذي خرجت منه الأفعى الماردةُ في الإقراض بذاتِ الآلية، بافتراض أنها الحيلة الذكية. نعم، أضحكُ، ولو بكلامي ما يدلُّ على ضحالةٍ في الفهم، فعَلـَيَّ ألاّ أنزعجَ لو ضحِك عليّ العارفون.. وبعد ضحكهم أرجو أن يتقدموا، ويفسِّروا.
ومن سيضحك، عليهِ أن يضحكَ على شيءٍ آخر، وهذا الشيءُ هو مجلة "التايم الأمريكية" التي أشارت إلى آليةِ الحل التي ذكرناها بما كتبه "جستين فوكس" عن أن السياسيين من بكين إلى برلين إلى برازيليا يرون أن المحنةَ الجارية هي بسبب منتج الفوضى العارمة في النظام المالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة.. يعني، أن الولاياتَ المتحدة وما تقوم به من حلولٍ لإنقاذ البنوك لا يجب بالضرورة أن يكون الحلَّ المناسبَ لإنقاذ الوضع الاقتصادي في أي بلدٍ من بلدان الأرض. ولذا فإن العالمَ في حاجةٍ إلى طقم جديد، بنظمٍ جديدة، ليلائم أوضاعاً جديدة.
وإن كان لا حلَّ إلا بإعادة ضخِّ الأموال في العروق الجافةِ للبنوك، فلم لا تكون الدولةُ مالكة لحصّة بمبلغ الإنقاذ؟
سيعترضُ كهنة الرأسماليةِ والمؤمنون بميكانيكية اقتصاد "اليد الخفية" على ملكية الدولة للبنوك أو جزءٍ منها، فالرأسماليون لديهم حساسية بالغة من تملك الدولةِ للأصولِ العامة، وهو تخوفٌ يجب أن نعترفَ أنه خيارٌ بالغُ السوءِ في الظروف الاقتصاديةِ المزدهرةِ والعادية، ولكن في أوقاتِ الكوارثِ تكون الحالُ سيئةً حيث نحتاج لكي نُنقذ الوضع َإلى حلٍّ سيئ، وأي حلٍّ يقودُ إلى وضعٍ أفضل لا يعود يحملُ صفةَ السوء، بل على العكس.. سيكون هو الفألُ الحسن. وهذا الحلُّ: تطبيقُ النظام الذي ترتعش بذكرِهِ الأسواقُ الحُرّة: "التأميم" والحقيقة أن كل ما في الأمرِ، جرعةٌ صغيرةٌ من التأميم.
ورُوَيْدكم، فالتأميمُ، حتى لا يرميني أحد بحجارة النقد، هو من وحي أفكار مجلة البلد الرأسمالي الأول في العالم: مجلة "التايم" الأمريكية، مستندة إلى قولِ رئيسِها الشهير "إبراهام لنكولن"، وهو الرجلُ العصاميُ: "على الدولةِ أن تتدخل بشكلٍ سافرٍ ومباشرٍ حين تسقط الأسواق".
وقد يرى وزراءُ المال الخليجيون، والمخططون الاقتصاديون، بعيداً عن ضربِ الودع، تقييمَ حلِّ تـَمَلـُّك الدولة في البنوك، وتوجيهها كمِرفقٍ عام، ولكن بآليةِ ورشاقةِ وتقنيةِ المِرفق الخاص، لتـُلـْغـَى قدر الإمكان عناصرُ الأثرةِ والطمَع، وستتغير الأولوياتُ من رغبات المنفعةِ الخاصةِ إلى متطلباتِ مهمةِ الإنقاذٍ العامة.. وتوجه قدراتُ البنوكِ البحثيةِ والمعلوماتية ومصادر التقييم لدراسة الفرص الحقيقية للنموِّ من جديد.
وبعد اجتياز الأزمةِ، فلتـُعاد الأمورُ كما كانت بمجرى نهر السوق الحُرّة.
إنها آليةٌ تكون بها يدُ الدولةِ هي الوحيدة التي تطول تشغيل مفتاح النور لينزاح شيءٌ من الليلِ البهيم!