سنة النشر : 22/12/2008 الصحيفة : الاقتصادية
".. أول كسرٍ لحصار غزّة، قاربُ مساعداتٍ وتضامنٍ قطري، يحمل طنـّاً واحدا من المساعدات."- من الأخبار.
فقط طنٌ واحد؟ ماذا يشكلُ طنٌ واحد؟ ماذا يفعل؟ ماذا يمسحُ من آلام؟ ماذا يعالجُ من مرضى؟ كم معدة فارغة ستمتلئ ولو مرة من طنٍّ واحد؟ ماذا يفعل طنٌّ واحدٌ ليمسح الخوفَ والقهرَ والجوعَ والمرضَ.. والموت؟
والجوابُ ليس من عندي، ولكن من عند المسؤول الفلسطيني الذي استقبل القاربَ والمجموعة التي على القارب، حين قال: "طنٌّ واحدٌ يحمله هذا القاربُ، ولكنه بالنسبة للشعب الفلسطيني أطنانٌ من الحبّ، ومن التفاؤل، التفاؤل بأن قارباً صغيراً قد يجرّ وراءه أساطيلَ عربية لمساعدة وغوْثِ غزة".
كيف كسر القاربُ حصارَ غزة المحكم؟ لا ندري، ولا يهم. صحيحٌ، كان بإمكان إسرائيل أن تطرد قارباً ضئيلاً يتسحَّبُ على مياه الأبيض المتوسط.. المهم أنه وصل، والمهم أنهم جماعةٌ من عربٍ وأجانبٍ عبَّروا عن تضامنِهم مع إخوانهم المحبوسين في غزة. نعم، غزة صارت حبْساً كبيرا، فقد سُدَّت كل المنافذ، لا خروج ولا دخول، وهذه هو معنى السجن، وابحث عنه في المعاجم والقواميس.
كيف يمكن أن تتصور غزة الآن؟ هل تستطيع؟ هي أرضٌ بلقع.. لا شيء، ممسوحةٌ من كل الموادِ، نقطةٌ آخر السطر.
ربما سمعتم عن حكاية "سناء الحاج"، الرضيعةُ الفلسطينية، التي أصيبت بانهيارٍ معويٍّ، فأخذها والدُها لمستشفى بوسطِ قطاع غزّة، ثم إلى مستشفىً آخر، لنقص المواد الطبية والأجهزةِ وقطع غيارها، وتبين أن الطفلةَ في طريقها للموتِ بسبب فشلٍ كلويٍ حادٍ من الجفاف، طبعا لا علاج إلا الغسيل الكلوي؟ ولكن، هيهات. إن وُجِدَ الجهازُ، فلا توجد إمداداتٌ ولا أنابيبٌ ولا مرِّشحاتُ الغسيل.. طيب، الحل أن يُتـَّصَل بمستشفياتٍ قريبةٍ في الضفةِ، في عمـّان، في القاهرة، من بيروت، من الرياض.. من أي مكان.. مستحيل.
غزة سجنٌ لا يدخل منه ولا يخرج منه شيءٌ، حتى ولا نملة تحملُ حبّةَ حمص.. إرسالُ سناء لمستشفى خارج غزة، كطفلة تنازع الرمقَ الأخير (وهذا يكفله أتعس ضمير إنساني..) مستحيل، والسبب: شرحُه! حتى لو كانت للطفلةِ أو لأبيها أجنحة فالطيرانُ ممنوع فالقضبان حتى في السماء، ولو كانت لهم زعانفَ، فالسباحة مع الأسماكِ: ممنوعة، فالقضبانُ حتى في البحر.. ولو كانوا من زواحف الأرض، لما استطاعوا.. الزحفُ ممنوع.
وتصور المشهدَ الآن: الأم والأب ينظران (.. إن استطاعا من حواجزِ الدموع) والطفلة قد تيبست عيناها، وبدأ يبهتُ لونُ بشرتِها آخِذاً لونَ الطين المُعْتم الخالي من الرونق، والجمجمةُ تكبر والمخ يسيل من ضغط السوائل المحجوزة التي تريد مخرجا، ولكنها أيضا محاصرة، لا مخرج، تماماً كحال غزة. ثم بدأ الجسمُ الصغيرُ بكامله يتورّم، ويتورّم، ويزْرَق.. فالمياهُ المسمومة المحجوزة لتعطِّلِ التصفيةِ، والتصريفُ للخارج قد توقف وأعلن نهاية العمل.. وآلامٌ في داخل الجسد الصغير لا يمكن أن تعبّر عنها الصغيرة التي لا تفهم الكلامَ، ولم الكلامُ؟ كل عضو في الجسد باتَ يتهاوى.. يتعطلُ القلبُ، والرئة، وتفشل الكبدُ.. والأمُ والأبُ يراقبان الموت ينتزع صغيرتهما ببطءٍ في طاحونة عذاب، والحكومة الإسرائيلية تدري.. وأتعسُ ضميرٍ في الدنيا سيبكي دمَاً من أجل إنقاذها، ولكن الضميرُ قد مضى، للأسفِ، قبل أن تمضي سناء.. وانعتقت من حصارِ اليهود لرحاب خالقِها في الخلود.
ولكن.. لم تنتهِ معاناةُ الأب حتى مع الحزن العظيم، فتربة مقابر غزة غير متماسكة قابلة للانهيار فيسندها الناسُ بالطوبِ.. ولكن لا طوب، فالطوبُ محاصرٌ أيضا، فأخذ من طوبٍ في سطح بيته ليبني جوانبَ قبر ابنته..
سناء، ستشعلُ براكينَ في ضمائر من تعتمل في قلوبهم حِمَمُ الكرامةِ والحرية.. والشجاعة. نعم، الشجاعة. فاليهودُ قوةٌ، والقوة بلا ضمير تكون وحشاً.. ولكن كيف تصف من لا يملك القوةَ ولا الضمير؟
نعرف أن الشجاعة والإقدامَ (قد) لا يجلبان النصرَ، ولكننا متأكدون أن لا نصرَ بلا شجاعةٍ وإقدام.
حلُّ الوضع الغزاوي مسألةٌ ضميريةٌ، وكرامة، وشجاعة، وإقدام، وإحساسٌ عربي وإسلامي.. ولا يصح أن نقولَ: من الحكمة أن ننتظر حتى تكون الأمورُ موائمةً.. فمن ينتظر أن تكون الأمور موائمة فلن يفعل شيئاً، لأنه ليس على الأرض شيءٌ جاهزٌ اسمهُ أمورٌ موائمة.
طنٌّ من مساعداتٍ، رآها الفلسطينيُ أطناناً من حبٍّ.. الآن نريدُ من كل العرب والمسلمين، ولو أوقيات!
وترحموا على سناء!