سنة النشر : 20/01/2016 الصحيفة : اليوم
.. أطل من نافذة السيارة بعينين واسعتين، ولصغر قامته فبالكاد أرى بقية ملامحه. لحظة توقف عندي فيها الزمن، وحفرت صورة لا أنساها بذاكرتي. كان طفلا صغيرا يحاول أن يلتقط الريالات من ركاب السيارات عند إشارةٍ في شارعٍ رئيس وعريض جدا.
عيناه الواسعتان بلون الكستناء المشوي، وشعره غزير ناعم متقصف مملوء بطبقة واضحة من القشرة وبلون يميل للون صخور الجبال. ملامحه كانت وسيمة يوما ما.
هذا الطفل، الذي كان جميلا بريئا يلعب بمكان ما، يبدو جبليا من تشريح يديه وسماكة الطبقة على جلدة وقدمه الحافية المغلفة بغطاء قشري يوحي أنه من غزلان الجبال.
إن كان حدسي صحيحا فإن هذا الطفل الذي لا يتعدى العاشرة بأي حال يبعد عن بيته، وربما وطنه، مئات الكيلومترات. توقف الزمن قلت، لأن الزمن نسبي حسب أينشتاين، وأرى أنه له أيضا بعد نفسي بلا شك، فاللحظة تعمقت كما يتعمق زمن طويل.
صرت أسأل نفسي أسئلة وأتخيل هذه المشاهد، وبظني أنها حصلت فعلا أو أن الذي حصل ربما أسوأ.. ولكني متأكد أنه حدث بشكل وأحداثٍ مقاربة.
قصة الطفل قاسم كما أتخيلها: كان قاسم ببداية السنة التاسعة من عمره بتلك القرية الجبلية ربما خلف حدودنا، أو قد يكون من أي مكان آخر. ويلعب يوميا مع أترابه على السفوح ويتعثر بالنبات الشوكي والأحجار المتناثرة، ضحكات الأطفال تتجاوب معها الوديان العميقة.
قبل حلول المساء والشمس بدأت تتوارى وراء القمم الجبلية كان الشر مستيقظا بعينيه الحمراوين ونواياه الحالكة السواد. تقدم اثنان من الرجال الأشداء الملثمين وخطفا الطفل قاسم وجارته الطفلة فاطمة، وهما قافلَيْن لمنزليهما الصغيرين، بعد أن كمّما فم كل منهما بيدهما الخشنتين الكبيرتين، وجريا يقفزان بهما بالليل كأشباح سوداء من رسل الشيطان.
وكانت شاحنة صغيرة مغلفة بصندوق من الألمنيوم تنتظر الرجلين، ركبا بهما، وغابت السيارة في نفق الظلام. في الصباح ضُرب قاسمٌ وفاطمة وذاقا من الهول ما لا يوصف هنا، ثم أخذ رجل عميق العروق سكينا شق بتوحش هذا الجرح الغائر بوجه الطفل قاسم من تحت كهف العين لأول فسحة الشفة العليا.ثم شووا الجرح بالنار والطفل يتلوى من الألم حتى غاب عن الوعي.
صحا الطفل قاسم، وقد تحول لكائن آخر من الهول والروع والألم الذي فوق طاقته، وألقمه حارسه خبزا عتيقا مغموسا بشاي سود بقدح قذر ليبقيه حيا. جاء رجل آخر واقتاد قاسم لسيارة أخرى بها عديد من الأطفال والنساء مقيدين ثم سلكت طريقا طويلا شاقا في الصحراء.
وتم تهريب البضاعة البشرية عبر الحدود بطرق ملتوية تعودت عليها عصابات فائقة التنظيم موغلة الفساد. وهناك دخل قاسم أكاديمية الشحاذة التي حصصها التعذيب والتهديد وفنون طلب المال واستعطاف الناس.
كنت أتساءل وأنا أرى عينَي قاسم الواسعتين وجرحه الغائر وتعلقه بنافذة السيارة بقامته الصغيرة وشعره الصخري اليابس: "يا طفلي بكم مدينة مررت؟ وما هي الأهوال التي لاقيت؟".
قصة قاسم هذه خيالية، وظني أنها حصلت واقعا وربما بصورة أشنع، تفتح أسئلة بدهية، تبدأ بكيف يمكن أن يختفي الصبيُّ قاسم عن عيون مكافحة التسول وهو بأعرض شارع بمدينة مثل مدينة الدمام أو الخبر، بينما يراه الجميع..لا، لا يرونه فقط، هو الذي يأتي كي يروه؟! وإن صدق الظن أنه جاء من منطقة خارج حدود مملكتنا، فكيف تم تهريبه؟
والسؤال ليس فقط تهريب قاسم، إنما يفتح أسئلة مثل ماذا يمكن أن يُهـَرَّب غير قاسم، ما دامت عصاباتٌ تنجح بتهريب بشر؟ .. لا أدري لماذا أحضرت بالقصة فاطمة، التي غابت حسب تخيلي عن قاسم.. فأين أنت الآن يا صغيرتي؟ آه ثم آه!