الوداع
سنة النشر : 25/12/2008
الصحيفة : اليوم
.. وأنتَ تتامل في عبدالله جمعة الدوسري، رئيس «أرامكو» المغادر منصبـِهِ، ترى بسمةً لا تغيض، كماءِ غديرٍ تعداهُ موسمُ المطر، وهو باقٍ على صفحةِ الرّمْل، يتوقع إعلانَ قدوم موسمٍ آخر.. والغـُدرانُ التي تنتظرُ مواسمَ الغيث لا تغيض.. ثم أنك ترى هذه الندبةَ العميقة في ذِقنِهِ، ويقول لك علمُ التشريح النفسي إن هؤلاءَ الناسَ أذكياءٌ وعنيدون، أصحابُ البسمةِ والندبةِ لا يترجـّلون، ولا ينتهون، ولا ينحنون على المنصّةِ ثم يذهبون. إنهم ببساطةٍ.. لا يغيضون.
كان المعلمُ سقراط، بندبةٍ وبسمةٍ، وكان هيردوت أول من دوّن التأريخَ، وكانت شخصياتٌ عظيمة بندبةٍ وبسمةٍ.. كان نهرو، رمز الهندِ، وكان «غريبالدي» موحد الطليان، وكان المتنبي فيما يرويه الناقلون، وكان البربري العظيم طارق بن زياد، فيما وصفه المؤرخ الجندي العربي الأموي الهارب من بغداد المشرق.. ومن عنيدين نعرفهم الآن، هم من أصحاب الندبة والبسمة..
حتى في أعظم الهوليووديين لهم تلك الندبة والبسمة كان كلارك جيبل، ومايكل دوجلاس، وأبوه أسطورة هوليوود، والأخير مثـّل وهو يناديه الموتُ، وكان يعلم ذلك.. إن الواقعَ، وعلم التشريح النفسي يقولون لك إنهم لا ينتهون.. هم أعنـَدُ من يبقى على المنصّةِ حتى ولو غادر آخر الحضور.
وعبدالله جمعة كما قلنا، إذن، نقلاً من سِيـَرشخصياتٍ كبرى عاندت التاريخَ وعاندها، وكما يقول مصنفو الناس حسب قضايا التشريح النفسي، هو غديرٌ لن يقبل أن يشربَهُ الترابُ.. وسيبقى رائقاً عائماً فوق التراب.
ومجلة أرامكو الأشهر (القافلة) تحتفل الليلة بتوديع عبدالله جمعة، رئيس أرامكو، أشهر مديرٍ لأشهر شركةٍ، ليس في بلادنا، ولكن في بلاد كل العباد، وتجدُ أمرين بارزين في المناسبةِ،
أولهما: أن طاقم المجلة الرائجة العريقة يودعون الرجلَ عبدالله جمعة ( وتراني سحبتُ كلمة احتقال كصفةٍ للمناسبة، فقد يربط البعضَ الاحتفالَ بالبهجةِ والحبور، ولكنها في الحقيقةِ احتفاءٌ حتى عند الخروج..)، وقلنا إن الوداعَ كلمة لا تنطبق على أصحاب النـُدَبِ والبسمات الملوِّحةِ، ولكنهم وجدوها فرصة ليضعوا خطاً واضحا ومؤقتا تحت نهاية فصل حافل، وهم يعلمون أن الرجلَ يفتح بوّاباتٍ لفصولٍ قادمة.
والأمرُ الثاني: أن «القافلة» وطاقمها النابه لا يقدمون لنا في مناسبتهم الليلة الرجلَ الذي عرفه العالم كواحدٍ من أكبر النفطيين على الكوكب لأعوامٍ، ولكنهم يقدمون شخصية تهمهم: المثقف والمفكر.
والرجلُ صاحبُ الندبةِ والبسمة، متعدد الشخصيات، ولكنها هنا ليست سمة نفسية، أو سَمِّها سِمةً نفسيةً حميدة إذن، فمن شخصياتِه أنه رجلَ أدب وفكر، وهذا سائرٌ في «آل جمعة إخوان»، ومنهم المرحوم جبر الدوسري، وتم ايضاً «احتفاء» بسيرتِه ومنجزه، من قِبــَلِ جمعية الفنون، والنادي الأدبي بالمنطقةِ الشرقيةِ مساء الثلاثاء هذا الماضي، فهم يملكون مواهبَ متفرقة، وليست بالتعيين متشابهة، فبينما عبدالله جمعة رياضيٌ مسك عرينَ فريقٍ خـُبـَريٍّ عريق، وتعلم مهندسا، ونمى تأصيلاً مفكـّرا، وأخفى عمداً فيلسوفاً عميقا، يطلّ رغما عنه، من وراء كلماتِه، ونظرتِه، وندبتِه، وبسمتِه.. إلا أنها كلها تجري في دمائه من مكوناتِ خلايا الدماء، ليست إضافةً، ليست تركيباً، وليست إدعاءً..
وكذلك كان يرحمه الله «جبر» من الفلكي إلى فيلسوف لغوي، إلى شاعر مطبوع، وإلى رجل مجتمع عادي وعفوي.. «آل جمعة» سيبقون عائلة جديرة بالتأمل.. فعلا. لا أظن أن عبدالله جمعة سيغيب عن المشهد، ولن يضع ساقاً على ساق على كرسيٍّ هزاز تقاعدي، لا تركيبته تسمح لذلك، ولا عقله، ولا هيبته الجسمانية الفارعة الرياضية.. ولا عناده لخوض غمارِ الحياة.. أرادَ أم لم يُرِد. أحذركَ أن ترمي نردَ رهانٍ على ترجلِ فارسِ لا يعرف أن يترجلَ من ظهر جوادِه.. حتى لو تعبَ الجواد. عبدالله جمعة.. أين السباق القادم؟