مجترحي الصعاب

سنة النشر : 06/12/2008 الصحيفة : اليوم

 
فاجـأني مؤشـَّرُ الضغطِ الدموي بانحرافٍ عن معدّله، فانخفض متهاوياً، متآزراً مع اتجاهات مؤشرات السوق المالية، وكان تضافراً محايداُ مع مؤشر السوق، لأني لم أتعامل بسوق الأسهم.. وقتُ ازدهار فوراتِ السوق وحصد المال، كنت الغبيَّ الوحيدَ تقريبا، ولما تهاوى السوقُ.. حمدتُ ربي على نِعمة الغباء!
 
والمهم ليس هذا، المهم أني كنت في شبه غيبوبةٍ، ولما صحوتُ رأيت أن مكالماتٍ عديدة وصلتني من البرازيل.. وأنا أعرف من ذاك الذي في البرازيل، فضرب قلبي عنيفاً، وخفـْتُ من غيبوبةٍ أخرى، لن يكون هذه المرة، سبَبُها انخفاضُ الضغط ِالحاد.. فالرقمُ لصديقي ومعلمي ومرشدي وفيلسوفي العمَلي «وهيب بن زقر»، شخصٌ من صنفٍ خاص، ومن عقلِ فاحص، ومن قلب محبٍ خالص.. «وهيب بن زقر» جمع بين الأعمال الكبرى، والفلسفات الكبرى، ولم يكن مجرّد جامع مال، بل كان مغامرا، كشـّافاً لآفاقٍ جديدة، دوما يبحث عن جديدٍ، ويسابقُ شروقَ الشمس ليكون أول الموجودين عند الإشراق..
 
دخل وهيبٌ مغامراتٍ عمليةً كبرى قبل الفوراتِ التي نراها الآن اتجاهاتٍ وتقليداً، لما توافرت الفرصُ، وفـُرِشتْ الأرضُ وجُهـَّزَتْ المواقع.. كان وهيب، وقتها، مثل مجترحي الصعاب، كُشـَّاف المجهول، ومثل مكتشفي العوالم يتزود بالعلم والأدوات والمنطق والمخيلةِ الهائلة..
 
وفاجعةُ هذ الرجل أن خيالـَه سابـَقَ ذكاءَه، وأشعلَ مولَّداتِ طموحِهِ، واستنزف معظم حيويته، فوهيب هيكلٌ إنسانيٌ صغير، داخله ورشةٌ عملاقةٌ تريد أن تتفجر طاقاتٍ من خلال الهيكل المحدود، والهيكلُ مزودٌ بطاقاتٍ متجدِّدةٍ من التصميم، ومع التصميم شيءٌ من عنادِ من يرى أشياءَ بوضوحٍ لا يراها الآخرون إلا محضَ سراب.. ولما تكشـّف السرابُ، صار واقعاً ساطعاً، ومورِسَ عملياً.
 
وهيب من أصحاب «التوازن الحركي»، مثل سائق الدراجةِ الهوائية، لابد له من الحركةِ للسير قـُدُماً، وليس من فئةِ من يُطلق عليهم المحللون الأجانبُ صفة: «الكمال اللازماني Timeless Perfection». ويمرضُ الهيكلُ الصغير، بعد أن أنجز مهامّاً لاقتصادِ وفكرِ الأمّة.. عنوانٌ مكرَّرٌ من أزمان لكل مدوِّري طرق ومساراتِ التاريخ.
 
يتعالجُ الناسُ من طبقة «وهيب» في «مايو كلينك»، أو «هيثرو اللندني»، أو مشافي ألمانيا، بينما يرى بعنادِهِ الكَشـْفي البرازيلَ مكانا ومصْدَراً لعلاجاتٍ جديدةٍ لأمراضٍ قديمة.. وهو يهاتفني من هناك بنبراتٍ ضعيفةٍ، فيُضعِف قلبي، ويرتجّ، لأنه يكافح لإخراج الصوت الذي يحتاج طاقةً هوائية، ورئتاه تكافحان من أجل الحياة، فتحاصرني الدموعُ، والرجلُ ماضٍ بأفكارٍ من نارٍ، وبصوتٍ خمدت فيه النار..
 
وأنا أدعو اللهَ أن يتدخل أحدٌ من الذين حوله لإيقاف حديثهِ الذي يغرفه من منابع بعيدةٍ وشاقةٍ من صدرٍه الكليم.. ثم لا يتركني إلا ويقول: «واصل مهمتـَّك، واحرص على صحتك..»، وصحتي بيدِ الله، واحرص عليها كما يحرصُ بقيةُ خلق الله، وأما مهمتي التي تلهب خيالـَه المجنـَّح فلم أتوصل لتحديدها بعد، ولا أجرؤ على السؤال.
 
ويوم تهاوى مؤشرُ ضغطي، هاتفني الشيخُ «وهيب» مُصِرّا مرات متوالية، ليقول بصوتٍ كرفيف جناحَي فراشةٍ متعبة: «هل أنت على ما يرام اليوم؟ ياشيخ، كم مرّة قلت لك احرص على صحتِك..»
 
.. وتعجبتُ، ما أدراه؟ ثم مَن ينصح مَن؟ فمثله لا يملك إلا الوعيَ على وجودِه، فكيف يؤرقه طيب وجود الآخرين؟ وهيب بن زقر، يعني لي الشيءَ الكثير.. فهو من الذين وجهوا حياتي في الفكر الاقتصادي، والفلسفي، وطرق المغامرة والريادة.. ويعلمني أن أتشبثَ بالحياةِ بينما يحاول هو جاهدا أن يبقى على تخومِها.. وهيب من النادرين، وجديرٌ أن نعرفه الآن أكثر، قبل أن نضطر للتعرف عليه، كما هو ديدننا، بعد فوات.
 
.. ومؤشرُ ضغطي ارتفعَ مصحِّحـَاً!.