فاطمة

سنة النشر : 22/11/2008 الصحيفة : اليوم

 
.. «لي طلبٌ عندك يا أستاذ نجيب، كما أبكيتنا بمقالك (من قطع الحبلَ بفاطمة)، أرجو أن تفرحنا بمقالٍ عن عودةِ الروح والابتسامة لفاطمة.
 
أخوك: ابراهيم عسيري- هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة الشرقية.»
 
.. هناك قصةٌ رمزيةٌ عن رجلٍ ضاق من بلدتِه، ومن أهلِها ورتابتها، وأراد أن يصل إلى مدينةٍ سحريةٍ وُصِفـَت له بأنها أجمل وأكبر واروع مكانٍ على الأرض، وكان عليه أن يسير ايّاماً في الغاباتِ حتى يصل لها.. قرر ذات ليلةٍ أن يخرج بحثا عن مدينته السحرية ليستقر بها سعيداً بعيدا عن بلدته.. وكل ليلةٍ كان يضع مقدمة حذائِه صوب الطريق الذي أتي منه حتى لا يعود بالخطأ إلى مدينته.. في ليلةٍ من الليالي، نزل طيرٌ من الشجرة وهو نائم وعكـَس مقدمة الحذاء في الاتجاهِ المضاد. في الصباح تابع صاحبُنا سيرَهُ أياماً حتى وصل لمدينة.. ولكنها لم تكن كبيرة ولا لامعة كما كان يتخيـّل، وشوارعُها مألوفة، وناسها مألوفون، نسخة عن قريتِه.. ثم انه عاش سعيداً إلى الأبد.
 
إذن، الرجلُ عاش سعيداً بنفس قريته بعد أن غير هو من نظرته من الداخل، بعد أن أعدّ نفسَه كي يحب المكان الذي وصل إليه، وعندما تحب مكاناً وتحب أن تكون سعيدا، فأنت من يجب أن تغيره، لا أن تهرب عنه.
 
وفاطمة هي البنت السعودية من أمّمصريةٍ التي تعطلتْ أوراقها، ولازمتها ظروفٌ بالغة السوء، فقضتْ ثلاث سنواتٍ بعيدة عن أمِّها المصرية، تائهة غير مستقرة، وفقدت فرَصا كبرى من عمرها.. ومن كان قرب فاطمة كان سيكون شعورُه تماما مثل ذاك الرجل الذي زهد في قريته ويئس منها، فلم يكن يقبل أيُّ إنسان مهما قسـَتْ عواطفـُه أن تضيعَ بنتٌ بهذه الطريقةِ العبثية..
 
نحن نلومُ الإجراءَ الرسميّ البطيء، ولكننا ننسى أن لنا دوراً يجب أن نقومَ به، فلا يكفي أن نشتكي، ونهربُ لقريةِ الأحلام، فالحقيقة ليست هناك قرية أحلام.. وإن وُجـِدَتْ فهي لأهلها، ولن تقبلنا.. الحلمُ يجب أن يُصنـَع على أرضِك، في قريتك، بمجتمعِك، ببلدِك.. لا خيارَ آخر.
 
لما وصلـَت إليّ مشكلة فاطمة تعجبت أن يكون الواقعُ قاسياً هكذا في بلدنا، ولكني كنتُ في قلبي متفائلا، فبدون التفاؤل سأفقد أهم وأقوى وأمضى أسلحتي، وعزمتُ أن أقف معها، ليس فقط من أجلـِها، بل من أجل ناسِنا جميعا، من أجل بلدِنا، من أجل إجرائِنا الحكومي، ومن أجل هيئاتنا المدنية، فقد يكون العيبُ لأننا جميعا لا نتصل معا بسلسلةٍ متماسكةٍ ومتواصلة.. إننا ننتقد، ثم ماذا؟ لا شيء، فتزداد الهوّةُ، وتتباعد الفرْقـَة، وتتصاعد أدخنة الغضبِ على الأطراف.. فنزهد في قريتنا. ولكن عندما نتشبث بالأمل ونبدأ نحن بتعليق الجرس والتنبيه والتفاهم الإيجابي مع جميع العناصر الفعّالة والفاعلة، فإننا سنحرِّك مولداً سيفاجئنا بقوته وتسارعه ليقود حمولة المشاكل إلى مراسي الأمان..
 
وهذا ما حصل فعلا. فبعد خروج المقال « من قطع الحبلَ بفاطمة» وصلت المشكلة لمظانها الحقيقية المباشرة وقرعت جرساً، فالناس يحبون أن يقدموا ويعملوا بأي موقع على أن تعطيهم الفرصة، تساعدهم، تتفهمهم. فتحركت الجهاتُ المعنية في إدارة الأحوال المدنية بسرعةٍ قياسيةٍ، وبمبادراتٍ شخصيةٍ فوق وظيفية، وبذلت شخصياتٌ مثل الأستاذة شريفة الشملان، ومسئولين في وزارة الداخلية، ومتحمسين مثل حبيبنا ابراهيم العسيري ( والشملان والعسيري حرصا شخصيا أن يتصلا بي في القاهرة ليزفا لي نبأ أن فاطمة استلمت بطاقة هويتها، ثم بإنجازٍ سريع معهود من إدارة جوازات الدمام، تم استخراج جواز سفر لها) بحماسة ومحبة ومتابعة مع فاطمة حتى أنها لم تعد وحيدة منذ خروج المقال بفضل هؤلاء الناس البيض القلوب..
 
وصرتُ كذاك الرجل، عدتُ لمدينةٍ أعرفها، لأرضٍ أعرفها، لناسٍ أعرفهم.. ارضي، وناسي، وانتمائي.. وسعادتي.
 
أمـّا فاطمة بعد غضـَبٍ عارم مفهوم.. نـُقِل إليّ أنها قالت بعد استلامِها بطاقةِ هويتها:« فخورةٌ أني منكم، وأنتم مني.»